البهجة شعور يمكن وصفه في كلمات محدودة. والحقيقة أن الشعور بالبهجة من الممكن أن يحول يومك إلي طاقة فِعل. أن يمحو مؤقتاً الإحساس بالكآبة. وهذا تحديداً ما فعله فيلم "ليلة رأس السنة" New Year Eve الذي يعرض حالياً بالقاهرة. شعور آخر بالبهجة. أن مخرج هذا الفيلم المفعم بمشاعر المرح. والحس الإنساني الراقي. والحيوية وأيضاً التفاؤل تجاوز السبعين عاماً "مواليد 14 نوفمبر 1934". والمفارقة أن هذا العجوز واسمه جاري مارشال هو نفسه صانع أفلام "امرأة جميلة" "Pretty Woman" و"عيد الحب" "Valentine Day". وحياته الخاصة لا تقل انطلاقا وتفاؤلا وحيوية فهو رياضي يشترط أن يقام ملعب للكرة في موقع التصوير.. وصورة كلها لا تفارقها ابتسامة مشرقة.. فهل هناك علاقة بين عجوز شاب وبين مناخ الحرية التي يعمل من خلاله ويتنفس فيه ويصنع أعمالاً مبهجة تحقق شرطا أساسيا من شروط الإبداع السينمائي البهجة. هناك أنواع مختلفة من البهجة علي أي حال.. البهجة الذهنية التي يحققها مخرج مفكر ومتأمل من نوع انجمار برجمان السويدي. أو انطونيون الايطالي. أو مارتن سكورسيز ويترنس مالك الأمريكيين وغيرهم كثيرين. وهناك "بهجة" تثير منطقة المشاعر العاطفية وتشحن الروح بالتفاؤل مثل أنواع الكوميديا الرومانسية الراقية التي تنتمي إليها أفلام هذا المخرج جاري مارشال. يوم واحد في حياة كثرة من الناس تعيش في مدينة نيويورك منهم. عزاب ومتزوجين. شباب وكبار وفي أعمار متوسطة.. الجميع تتقاطع مساراتهم في هذه الليلة ويلتقون معاً قبل منتصف الليل في الميدان الشهير -تايمز سكوير- وسط مدينة نيويورك. حيث يشهدون هبوط الكرة العملاقة المضيئة وسط الآلاف المجتمعين للاحتفال ببداية عام جديد.. إنه تقليد نيويوركي سنوي. وليلة ليلاء تعيشها المدينة المدهشة "أيقونة" المدن الحديثة والعصر الذي نعيشه بتناقضاته الرهيبة ومساحات الفوارق الصعبة بين من يملكون المال ومن يثورون عليهم بسبب ضغوط الحياة الاقتصادية. الفيلم يجمع حالات مختلفة نفسية وعاطفية لحظية ولكنها مهمة: فهناك المرأة الشابة التي تعمل في الشركة المسئولة عن هبوط الكرة العملاقة "هيلاري سوانك" وهناك والدها العجوز "روبرت دي نيرو" الذي يرقد في المستشفي القريب من الميدان وينتظر الموت. ولكنه يتوق أن يشاهد احتفال الميدان لآخر مرة في حياته.. الأمر الذي يتحقق قبل نهاية الفيلم. وهناك المراهقة الصغيرة هيلي المصرة علي قضاء ليلة رأس السنة مع صديقها في الميدان رغم اعتراض أمها "كيم" "سارة جيسكا باركر" وهناك الشاب "راندي" المحبوس مع شابة في مصعد والاثنان يستعدان لحفل رأس السنة. وهناك الممرضتان اللتان تقفان إلي جوار العجوز "هاريس" في المستشفي وهناك رئيسة الممرضات التي تلعب دورها زوجة المخرج. وهناك السكرتيرة انجريد "ميشيل فايفر" التي تعمل في الشركة التي تقيم الحفل الراقص التنكري في الميدان والتي تتعرف مصادفة علي الشاب "بول" وتعده بتذاكر للحفل لو استطاع أن يحقق لها مجموعة من الطلبات قبل أن يبدأ العام الجديد .. شخصية خاصة جداً ولكنها تتوافق مع المدينة التي تعيش فيها يضم السيناريو أيضا سيدتين تستعدان للوضع. احداهما تضع طفلها الأول والثانية لديها ثلاثة أطفال وتنتظر الرابع. والسيدتان ومعهما زوجيهما تجتهدان ان تكسبا الجائزة المالية المخصصة للطفل الذي يولد مع بداية العام.. وبعد فترة من الحيل الظريفة جداً تتنازل الأولي للثانية تعاطفا معها. لأنها الأكثر حاجة للمال لتواجه حاجات أسرتها الكبيرة.. هناك المغني جنسن "جون بون جوفي" وصديقته "لورا" "كاترين هيجل". السيناريو نسيج متداخل من الخيوط التي تصنع في النهاية عملاً خفيفاً. وراقياً. وشديد الظرف يضم الكثير من الحواديت والحيل الرومانسية والمشاعر الأبوية. والأمنيات غير التقليدية. والهجر والخيانة والميلاد والموت. فضلا علي الاحتياج الملح للأمل والتجديد لحياة عبر قبلات متبادلة مع نهاية الليل واختيار كل فرد للشخص الذي سوف يمنحه قبلة العام الجديد. الفكاهة هنا قوية التأثير بمعني أنها قادرة علي إثارة الضحك. وعلي تحريك المشاعر. التناول الكوميدي لهذه الحبكة المتشابكة يتم بقدر من الرهافة والتمكن وقوة الملاحظة والاختيار الذكي للتفاصيل وربط الشخصيات والعلاقات بإقناع وبأسلوب المخرج عند تقديم كل شخصية وإبراز ملامحها ليس فقط الخارجية وإنما أيضا سلوكيات. بالنظر إلي طاقم الممثلين سنجد عدداً كبيرا من النجوم ومنهم حاصلون علي الأوسكار "هيلاري سوانك" وهال بيري وروبرت دي نيرو ويشعل فايغر وسارة جيسكا باركر.. ممثلات وممثلون علي درجة كبيرة من التمرس جميعهم مواهب أصقلتها التجربة والمناخ الفني والنجاح الكبير الذي تحقق لكل واحد منهم. الفيلم نموذج جيد جداً للعمل الترفيهي والتجاري ايضا. ونموذج للتكامل الكوميدي وعمل يضم كل هذه الصفوة من الممثلين وفي أدوار صغيرة. أنه عمل جماعي يظهر فيه روبرت دي نيرو. هذا النجم العملاق في دور صغير ولكنه بارز وفي كل مشهد يظهر فيه يعبر بحضور طاغ عن محنة رجل يعيش نهاية العمر ويرفض العلاج الكيماوي لأنه ببساطة لا يريد ان يعيش بضعة أشهر بواسطة علاج يضيف إلي ألمه.. ولكنه وسط هذا المرض الأليم يتوق إلي نظرة أخيرة لمشهد مرح وجميل يحضره الملايين احتفالاً بعيد رأس السنة. هيلاري سوانك "فتاة بمليون دولار" تلعب دور الابنة وأيضا الموظفة المسئولة عن هذا الطفل الضخم الذي ينتظره الآلاف من سكان نيويورك لحظة إنزال الكرة في ميدان تايمز سكوير. حرص المخرج علي تقديم شخصية المدينةنيويورك مع بداية الفيلم. وعلي إبراز معالمها قبل الاحتفال وحركة عمال النظافة بعد الانتهاء منه تحصل حاصل ان تشير إلي أن المستوي الفني الجيد الذي يجعل هذه التوليفة اللذيذة من الحكايات والشخصيات واللحظات المشحونة بالمشاعر التي تجعل قضاء الوقت مع فيلم هكذا نوعاً من العلاج المؤقت لحالة الاكتئاب التي يعاني منها كل من يتابع المشهد الواقعي الآن.