إذا أردنا أن نتعرف إلي صورة المجتمع المصري في أعوام الثلاثينيات والأربعينيات. فلعل الظاهرة الأهم هي غلبة اللغتين الإنجليزية والفرنسية في لغة التعامل الإداري والتجاري. وعلي واجهات المحال. وفي الأماكن العامة. كانت مصر تعيش آنذاك أزمة البحث عن الهوية ما بين الدعوة إلي الجامعة الإسلامية. وتأكيد الرابطة الشرقية. والاتجاه جنوباً. ودعوة طه حسين إلي ثقافة البحر المتوسط. وإيمان حسين فوزي التعبير له بكل ما هو غربي. ثم إعلان مكرم عبيد: نحن عرب! اختلطت التيارات وتشابكت. وتلاقت في جلاء الهوية العربية. وفي اطمئنان الوجدان المصري. والعقل المصري. إلي وشائج العروبة التي تصل ماضيه بحاضره. وتستشرف آفاق مستقبله. لابد أنك ستجد تبدلاً في الصورة. من خلال مشاهدتك لأفلام الأعوام التالية. تحققت الغلبة للغتنا الجميلة "للإنجليزية والفرنسية واللغات الأجنبية الأخري توقير تفرضه احتياجات المجتمع" أول ما ستلحظه أن الشريط في هذه الأعوام يعود إلي بدايته: يغيظني الموظف المصري. الذي يتحدث في مؤتمر تنظمه حكومة بلاده. في قاعة مزودة بإمكانات للترجمة. لكنه يصر علي أن يتحدث بلغة أجنبية. ما مهمة الترجمة إذن؟ التقدم لا يعني إهمال لغتنا القومية. اللغة التي تؤكد هويتنا. الحرص علي لغة البلاد يبين في المؤتمرات الدولية. حين يعني المترجمون بمسئولياتهم في الترجمة من لغة إلي أخري. أما نحن. ولكي يعلن من يمثل بلاده أنه يجيد لغة أجنبية وربما إشفاقاً علي المترجمين فإنه يتخلي ببساطة عن لغة بلاده! تدخل مصرفاً أو فندقاً أو مؤسسة تجارية. تشعر بالغربة في كل ما حولك. بداية من ملصقات الجدران. وانتهاء بالاستمارات التي تقدم إلي العملاء لملئها. حتي المحال التي تمارس أنشطتها في الأحياء الشعبية. ويقتصر زبائنها علي أبناء تلك الأحياء. تصر أن تتسمي بمسميات أجنبية. تغطي بها واجهاتها. حتي دكاكين الفول والطعمية والكشري يصر أصحابها أن يطلقوا عليها مسميات أجنبية. قد يغيب معناها عن معظم المترددين عليها. وقد يتظارف صاحب الدكان فيكتب الاسم العربي بأحرف لاتينية! أذكر أن محافظاً أسبق للقاهرة وعد بأن يستبدل مسميات عربية بالمسميات الغربية علي المحال العامة. بحيث تستعيد لغتنا الجميلة قيمتها. لكن المحافظ ترك منصبه. وقدم من بعده محافظون آخرون. أهملوا الوعد القديم. إضافة إلي عشرات الوعود لمسئولين. ظلت في إطار الأمنية. مثل تزويد محطات البنزين بأجهزة لكشف العوادم الملوثة للبيئة! أصارحك أن الحسرة داهمتني وأنا أقرأ ما كتبته صحيفة إسرائيلية عن اللغة العربية التي تتحول علي أيدي أبنائها إلي لغة ميتة. مقابلاً للعبرية التي أعادها اليهود إلي الحياة بعد أن كانت ميتة!