علي طريقة الفنان الكبير عادل إمام في "الإفيه" الشهير له: "بلد شهادات".. يمكن أن نصف مصر حالياً بأنها "بلد مظاهرات"!! مظاهرة.. في كل شارع وميدان وحارة وزقاق. ومظاهرة.. في كل وزارة ومصلحة ومؤسسة ومصنع ومبني حكومي أو خاص. ومظاهرة.. لأرباب كل مهنة ووظيفة.. حتي وصلنا إلي تظاهر سائقي التوك توك بالجيزة الذين يرفضون ترخيص تكاتكهم!! ولا تتعجبوا إذا وجدنا ذات يوم مظاهرات للبقالين والمكوجية والعجلاتية والميكانيكية والسمكرية ضد أصحاب المحلات والورش!! البلد "حبلي" بنفس المظاهرات ونفس المطالب الفئوية.. وما أن تنتهي واحدة إلا وتخرج أخري بأشخاص جدد وفي أماكن أخري! تسعة أشهر أو يزيد ونحن علي هذا "الوضع" ولا نري بادرة أمل في أن تدخل تلك الظاهرة المقلقة مرحلة "المخاض" والولادة ولو بعملية قيصرية!! لا أحد يفكر في الطريقة التي سيتم بها تدبير أموال لتحقيق المطلب الرئيسي للمتظاهرين.. زيادة المرتبات. وفي رأيي أن الحكومة هي السبب في استمرار وتصاعد المظاهرات التي أصبحت فوق الدولة والقانون. إننا في موقف مالي صعب. بل شديد الصعوبة.. وقد يعيد التاريخ نفسه وتقع قناة السويس تحت الحماية الدولية لنفقد معها حريتنا وسيادتنا وكرامتنا.. مثلما حدث في عهد الخديو إسماعيل حتي تم احتلال مصر أيام "الخائن" الخديو توفيق عام .1882 أنا لا أبالغ.. فهذا للأسف واقع وقد يتحقق فعلاً. نحن مدينون بترليون جنيه ديون داخلية. و37 مليار دولار ديون خارجية.. وكنا نسدد الأقساط والفوائد من مصدر مهم هو الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وغير المباشرة وتقدر ب 12 مليار دولار. بعد هروب الاستثمارات.. بدأنا السداد من الاحتياطي النقدي الاستراتيجي الذي كان يقدر ب 36 مليار دولار في يناير الماضي وانخفض نتيجة السحب منه لسداد أقساط وفوائد الديون واستيراد السلع الأساسية إلي 24 مليار دولار الآن.. أي فقدنا 12 ملياراً هي قيمة الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة التي خرجت ولم تعد. ونتيجة استمرار السحب من الاحتياطي النقدي سيتناقص هذا الاحتياطي حتي يصل إلي نقطة الخطر الشديد. ولا نستطيع سداد الأقساط والفوائد مما قد يدفع الدائنين إلي طلب الحماية الدولية علي قناة السويس لضمان أموالهم باعتبارها مصدر دخل شبه ثابت.. فيأتينا "مندوب سامي" يجلس علي خزينة القناة للحجز علي الدخل من المنبع!! لا أحد يفكر لحظة في هذه الكارثة التي تطل فعلاً برأسها.. الكل يريد أموالاً.. فمن أين؟!.. لا أدري.. ولماذا لا تصارح الحكومة الشعب بحقيقة الموقف؟!.. لا أدري أيضاً.. ولصالح مَن؟!.. شيء يجنن. إن المظاهرات والاعتصامات لتحقيق مطالب سياسية أو فئوية حق كفلته القوانين والدساتير.. وهي ظاهرة بكل دول العالم الغنية والفقيرة. المتقدمة والنامية والمتخلفة. بل والتي علي شمال السما أيضاً.. ظاهرة معترف بها عالمياً للتعبير عن الرأي.. ولكن لها شروط وضوابط قانونية. ومَن يخرج عنها تتم معاقبته. واتخاذ كافة التدابير ضده وفق تقديرات الموقف. وكلنا تابعنا مظاهرات "احتلوا وول ستريت" بأمريكا.. وكيف تعاملت السلطات هناك مع المتظاهرين عندما خرجوا عن القانون.. فقد طاردتهم بالهليوكوبتر. ودهستهم تحت سنابك الخيل. وفرقتهم بقنابل الغاز وخراطيم المياه. واعتقلت منهم المئات منذ عشرة أيام و50 آخرين أمس الأول. ورغم خلافي الشديد مع أمريكا وسياستها.. فإنني مجبر علي أن أصف السلطات هناك بأنها تحترم القانون بشراسة. وتدافع عن هيبة الدولة ومصالح الغالبية العظمي من الشعب بقوة القانون. لكن.. ترك السايب في السايب وجعل الأمور "سداح.. مداح" وعدم اتخاذ موقف قانوني سليم حيال المتجاوزين يجعلنا أمام هذه الصورة التي نراها في كل مكان وآخرها من أمناء الشرطة المسئولين عن أمن الوطن والمواطن.. بل إن التخاذل أمام هذه المظاهرات يخلق أخطاء وخطايا مثل البلطجة وغيرها. أتمني ألا يخرج علينا من يحاول خداعنا وينفي ما ذكرته عن الديون وإمكانية فرض الحماية الدولية علي قناة السويس ويقول إن اقتصادنا قوي.. وإلا سأقول له: ما دامت الحكومة غنية والاقتصاد متين. فيجب أن تحقق المطالب الفئوية للمتظاهرين. وأتمني أكثر ألا يصدعنا أحد باسطوانة سعي أمريكا لإسقاط ثلث الديون التي علينا وبما يتجاوز 3 مليارات دولار.. لأن هذا لا يمكن أن يصدقه أحد لعدة أسباب: * أولاً.. أن الاقتصاد الأمريكي نفسه منهار. حتي إن الإدارة الأمريكية تفكر جدياً في إلغاء المساعدات والمعونات لجميع دول العالم بما فيها مصر وإسرائيل. * ثانياً.. معني إسقاط جزء من الديون أن أمريكا مع ثورة يناير. وهذا غير صحيح. لأنه يتعارض جملة وتفصيلاً مع دعمها لمنظمات مجتمع مدني غير شرعية. ومن وراء ظهر الثورة والحكومة والمجلس العسكري لإحداث فوضي في مصر تمهيداً لتقسيمها.. كما أن أمريكا تصر علي هذا الدعم في تحدي صارخ للحكومة والمجلس العسكري اللذين اعترضا رسمياً علي الدعم. لو كانت أمريكا مع الثورة لمنحت الدولة هذه الأموال التي قيل إنها حوالي مليار جنيه. لا أن تمنحها لمنظمات تزعزع استقرار مصر. * ثالثاً.. إن أمريكا تعلم جيداً ما نعانيه من صعوبات في سداد الديون. ومن مصلحتها أن تتأزم عملية السداد لتقايض عليها من أجل تنفيذ مطالب لها في شتي المجالات. خاصة السياسية والعسكرية. لا أن تسقط جزءاً من الديون. يا جماعة.. إذا كان الذي يتكلم مجنوناً.. فالمفروض أن يكون المستمع عاقلاً. احترموا عقولنا.. واحترموا القانون ونفذوه علي الكبير والصغير.. وحافظوا علي هيبة الدولة.. فلم تعد تجدي السلبية وإمساك العصا من المنتصف.