الأسئلة والخواطر التي تفرضها صناعة الدراما في كل موسم رمضاني سواء أثناء الفرجة أو ما بعد نهاية الشهر الكريم عديدة ومحيرة. وهذا طبيعي فالدراما التليفزيونية صناعة ضخمة تتكلف مئات الملايين ويشارك فيها آلاف العاملين إلي جانب جميع الأجيال التي أفرزتها هذه الصناعة من نجوم علي امتداد تاريخها وتطورها. ومن الطبيعي أننا لا نملك الإجابات فكل ما وصلنا مجرد مؤشرات وعناوين وأسماء لفنانين وأجزاء من مقدمات ومن ثم فأن ما نكتبه في هذه المساحة الآن لا يتجاوز انطباعات أولية أو توقعات بعيدة عن النقد الموضوعي أو عن تحليل المحتوي أو رصد للظواهر التي تكشف عنها عادة الأعمال التي تتنوع موضوعاتها وأساليب معالجتها والظروف الانتاجية التي أحاطت بها والكواليس غير المرئية التي تؤثر سلباً أو إيجاباً في مقدراتها ومستوياتها في النهاية. ولا يوجد من يستطيع انكار حجم التأثير الاجتماعي الذي تحدثه عشرات الأعمال الدرامية التي تصنع مع تراكمها تغييرات كيفية في السلوك وطريقة فهمنا لأنفسنا وإدراك ما يدور حولنا والصورة الذهنية التي تتشكل عنا وعن المجتمع الذي نعيش فيه. الدراما التليفزيونية فالدراما التليفزيونية تمتلك من بين كل وسائط التواصل الجماهيرية التأثير الأكبر في المتفرجين والأسرة المصرية والشباب الذين يشكلون النسبة الأعظم من المستخدمين لوسائل الاتصال والتواصل الجماهيرية التي أصبحت عديدة ومنها التليفون المحمول إلي جانب الوسائط الأخري وكلها تعرض "الدراما" والانتاج الدرامي بأشكاله. ولا ننسي أن "القرية الصغيرة" بما تضمه من شعوب وثقافات قد أخضعت بوعي وتخطيط وتدبير لآفة العولمة التي صارت "الثقافة" أحد أهم أهدافها وليس فقط الاقتصاد والسياسة والميادين الأخري. ولا ينكر أي متابع للانتاج المحلي الدرامي مدي تسلل القيم الغربية وكيف انتشرت وسط الشباب وانعكست علي طريقة تفكيرهم وعلاقاتهم ومظهرهم الخارجي وملابسهم ولغتهم ونوع اهتماماتهم وأنماط السلوك الغريبة التي أصبحت جزءاً عضوياً في ثقافتهم وأساليب تعاملهم اليومية. وأكثر ما يلفت النظر تلك النزعة الفردية بعيداً عن قيم الأسرة وما نطلق عليه "لمة العيلة" أضف إلي ذلك الجانب المادي والاستهلاكي المسيطر علي الناس الذي يتكشف بقوة في الموسم الرمضاني وعلي نحو يحول الشهر والشارع إلي حالة من الفوضي المعوقة للحياة الطبيعية. الإعلان والخيانة منذ أيام قليلة شاهدت "إعلانا" لافتا لفنانين كوميديين يصور زوجة من الطبقة الشعبية تسأل زوجها إذا ما كان سيهديها المحمول "ايفون" وأثناء الحوار والأداء المبتذل تشير إلي كرم حبيبها "القديم" الذي كان يهديها "طشت لحمة أشكال وألوان" وفي الوقت نفسه يرن جرس الباب حيث القادم محصل الكهرباء الذي يتضح أنه ذلك الحبيب الكريم صاحب "طشت" اللحمة فترحب به وتتهلل لرؤيته وترسل له قبلات في الهواء ويبادلها إياها بينما الزوج يقف بين الاثنين ولا يستنكر من المشهد كله إلا وظيفة الرجل "المحصل" وتعليق الزوجة "أهوه علي الأقل بيحصل حاجة أنت ولا حاجة". وربما يضحك البعض إلي الإعلان باعتباره مجرد نكتة وقد يقول آخر: "عادي ما هو ده بيحصل في الواقع" ولما سألته: تقبل زوجتك بهذا السلوك؟ صمت. ما تحليل مضمون هذا الإعلان الذي شاهدته؟ إن الابتذال سلوك عادي والخيانة الزوجية وإن كانت شفهية ومعلنة وبهذه الوقاحة فهو أمر طبيعي. ويقول الإعلان كذلك إن الرغبة في الاستهلاك والامتلاك فوق طاقة الامكانيات المالية للزوج أمر مشروع وأن القيمة المادية للرجل هي ما تحدد قدره ولا شيء آخر. دور الفكاهة ولا ننسي في هذا السياق الدور المهم للفكاهة وأن "النكتة" سلاح اجتماعي ووسيلة لبث سموم فكرية وخلق صور ذهنية "تأمل النكات الخاصة بالصعيدي أو الهندي". وأنها أي "النكتة" تعد وسيطاً فعالاً لتمرير الصور الشائهة الأمر نفسه ينطبق علي الإعلان الذي يستخدم الفكاهة للترويج لبضاعة مستوردة جذابة تحتاج مقدرة مادية قد تدفع ضعاف النفوس إلي السرقة وطرق غير مشروعة للكسب أو إلي الاقتراض.. إلخ. وقياساً علي ذلك يمكننا رصد العديد من وسائل الاتصال الجماهيرية التي تتسلل إلي المسلسلات في صورة إعلانات وتعترض السياق السردي وتلغي تيار الأفكار لحساب بضاعة قد تكون فاسدة أو إعلان لا نعرف من و راءه. لقد أصبحت "الدراما" بأنواعها ومختلف مصادرها عابرة للقارات تصل الجماهير إينما كانوا فوق كوكب الأرض و"الفرجة" صارت نشاطاً عالمياً تمارسه شعوب العالم فلم تعد الدراما المصرية وحدها المصدر الوحيد المؤثر للترفيه ولكن هناك الدراما التركية والهندية والأمريكية والبريطانية وبالطبع الدراما السورية التي تلعب دوراً إيجابياً في مجال الدراما التاريخية افتقدناه للأسف هذه الأيام حين تراجعت النزاعات والصراعات المصطنعة التي تنهش في هذه المنطقة العزيزة منذ سنوات وأن ظلت السينما السورية في حالة توهج وارتباط عضوي بما يدور في هذا البلد العربي. ومنذ الثلاثينيات من القرن الماضي وقبل ظهور التليفزيون انتبه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلي دور الإعلام والدراما الإذاعية فسن قانون الإعلام عام 1934 لتنظيم البث الإذاعي والتواصل عبر وسائط التلغراف والتليفون وتأسست اللجنة الفيدرالية للإعلام للقيام بهذا الدور وكان من بين القيم التي تتطلع إلي وضع معاييرها القيم الأخلاقية التي تجافي الاسفاف والإباحية والابتذال وفي عام 1952 تأسست في أمريكا الجمعية الوطنية لمذيعي الراديو والتليفزيون لمراقبة محتوي اليث الإذاعي ووضعت قواعد ارشادية لذلك فالشعوب لا تترك للمارقين بعيداً عن سياسات الدولة ونظامها. تغير القيم الاجتماعية ومنذ عام 1960 ومع تغير المثل الاجتماعية احتلت قيمة الحرية وتحديداً "حرية الكلام" مقدمة "التعديل الأول" في الدستور الأمريكي وعليه تحركت الحدود الخاصة لما يمكن اظهاره علي شاشة التليفزيون وحل التصنيف العمري للمتفرج الذي نعمل به الآن في مصر بغض النظر عن امكانية تطبيق ذلك من خلال التركيبة الأسرية ومن خلال السياق الثقافي المسيطر ولم يلغ التصنيف العمري مسألة التحفظ أمام مظاهر الاسفاف والابتذال والاباحية والمعايير الخاصة بثقافة المجتمع الذي يقوم بتطبيقها. وعلي مدي السنوات مع التطور التكنولوجي في وسائل الاتصال والتواصل اشتدت المنافسة بين الشبكات التليفزيونية الكبيرة والمؤثرة واصبحت هناك مهمة أمام المحللين في مجال الميديا يساء استخدامها للأسف وسط جنون المنافسة ألا وهي رصد نسبة المشاهدة ورسم الخرائط البيانية وفقاً للمنطقة والنوع والمرحلة العمرية ومستوي التعليم والدخل المادي والمكان الجغرافي. وكلما زادت نسبة اقبال المتفرجين علي نوع معين من المسلسلات ازداد الدخل الذي تحققه الشبكة التي تعرضه والوسيط والذي يتولي بيعه للمحطات الأخري وقد لوحظ أن مسلسلات الجريمة وتليفزيون الواقع ونوع الاوبرا الصابونية "الاجتماعية" ومسلسلات الست كوم والألعاب ومسابقات الرقص والغناء الأمريكية اصبحت تذاع علي مستوي العالم بعد اضافة نكهة محلية عليها وهو الأمر الذي يخدم اتجاه "العولمة" بقوة علي المستوي الثقافي ومن الطبيعي أن تحظي الثقافة "الأقوي" وبالذات في مجال الفنون السمعية البصرية بالرواج والانتشار. وفي فترات الضعف والتراجع الثقافي وسيادة قيم الفهلوة والبلطجة والانحطاط الأخلاقي كتلك التي شهدتها سنوات ما بعد 25 يناير 2011 لم يكن غريباً أن يصل الأمر بصناعة هذا النوع المؤثر إلي المستوي الذي وصلت إليه الدراما المصرية حتي وصل الأمر إلي استنساخ "القوالب" الجاهزة وما يسمي ب"الفورمات" وأن تكون "الفورمة" الرائجة "التركية" والهندية وأن يتراجع دور المؤلف والمخرج ويصبح "الممثل النجم" هو الحاكم بأمره لأنه أصبح "ماركة" ويمكن أن يباع العمل الدرامي با سمها أو اسمه. لقد اصبحت "الدراما" في حالات كثيرة مرجعاً لتعليم الجريمة و للتعاطي والهروب السلبي من ضغوط الحياة وباكثر الوسائل مثلاً لقيمة الحياة وللقيم الإنسانية التي تجعل للإنسان هدفاً آخر غير الهروب والتخفف من المسئولية الاخلاقية والأسرية وبالطبع المسئولية الوطنية والاكثر مصدراً لتشريع الخيانة والشذوذ بأشكاله.. ولقد لاحظنا ذلك في جانب من الانتاج الممول بالملايين من دون المردود المأمول فهل نسعد في الموسم الذي يبدأ بعد أيام بحصاد يدفعنا إلي إعادة النظر في هذه الصناعة والعودة إلي عصرها الذهبي.