زحفت العشوائيات علي بنية الدراما التليفزيونية. ونحتت القواعد السليمة للبنية الأساسية التي أرسي أساساتها كتاب مثقفون مدركون لدور الفن وتأثيره. يتذوقون معانيه وجمالياته فضلا عن قواعده الفنية.. كانت قنوات التواصل مع صُناع هذا النوع الفن الجماهيري محدودة ولكن علي درجة محسوسة من التأثير.. وكانت قطاعات المشاهدين باختلاف اذواقها واعمارها وثقافتها وانتماءاتها الطبقية تسكن وتستريح لجموع الشخصيات الفنية التي تتحرك علي الشاشة وتجد فيها جزءا من نفسها تستقبله بانشراح وتتفاعل مع همومه وأفراحه وتفهم لغته وتعبيراته وتتفهم غضبه وثوراته ورفضه للأوضاع ونقده للسياسات. صحيح أن الفنون الجماهيرية تعكس بالضرورة ما يجري داخل المجتمع. وما يصيبه من هزات اجتماعية ويؤثر أخلاقيا ومعنويا علي سلوكياته. وأن الفنان لايمكن أن ينعزل عن مجريات الأمور التي تدفع المجتمع الي الأمام أو تشده الي الخلف. وصحيح بنفس الدرجة أن الفن لا يفترض أن يقتصر دوره علي "الفُرجة" ونقل ما يراه الفنان علي أرض الواقع إلي الشاشة. وصحيح مرة ثالثة أن الفن اختيار. والفنان حُر في اختياراته. وأن الابداع يظل متحررا من دون كوابح. ولكن بشرط أن يظل ما يفرزه من "إبداع" يتسق مع مفهوم الإبداع والابداع يعني الابتكار. والأفكار الطازجة وعدم التكرار والإلحاح علي ظواهر وأمور أصبحت مستهلكة ومبتذلة. والابداع يعني تقديم أشكال فنية فريدة. ورؤية للواقع وللظواهر مفيدة ومعالجات للقضايا المطروحة بأساليب تحقق المتعة والراحة النفسية عند استقبال الناس له. والحرية لا تعني حرية التزييف والتحريف ونشر الإسفاف والتدني واجتزاء أسوأ ما في السلوك البشري وتسويقه وتكريسه أردأ ما في لغة "العوام" من مرحلة الانحطاط الثقافي وبفعل تردي التعليم وشح الموارد الاقتصادية وفساد السياسات والأنظمة. لا يوجد فن عشوائي. لان للفنون قواعد وجماليات ولغة حتي الفن "الشعبوي" المتجه بتأثيره لعامة الناس والباحث عن دغدغة غرائزهم وسلوكياتهم والمتملق لمزاجهم وفهمهم المتراجع والبعيد عن حركة التقدم الاناني نحو الجديد والمبتكر والراقي حتي هذا "الفن" الفارق في الإباحة اللفظية والافيهات المبتذلة. واللحوح في استخداماته لمفردات اللغة التي يستطعمها الحُثالة ورواد الغُرز والكباريهات الرخيصة ومواخير الدعارة. أوقول أن هذا "الفن" أو الفنون الاستهلاكية الرخيصة لا يصح أن نقيم لها جسورا ونفتح نوافذ أمامها للدخول الي البيوت حيث تعيش العائلات والاسر المصرية... هذه الفنون لها "بيوت" خاصة أو "موالد" محصورة في أماكن محدودة. يذهب اليها الباحثون عن هذا النوع الرديء من الفن المصُر علي تسويق أسوأ ما في الشرائح الفاسدة في المجتمع و"اللغوصة" في قمامة الواقع وطرح أقبح ما يرقد في القاع علي الملأ بحجة أن هذا هو الواقع وتقديم "الجزء" باعتباره "الكل". هناك إصرار والحاح من قبل الأساطين الجدد المسيطرين علي سوق الدراما علي تشويه عقول المتفرج وتسفيه قيمه وثقافته وتشويه أدمغة المتلقي بمناظر وألفاظ وأشكال من الترفيه "الواطي" و"البلدي" العنيف والزاعق وكأننا في مجتمع يسكنه الغوازي والعوالم والغانيات والقتلة والبلطجية. سوق الدراما الآن لا تحكمه سياسة ثقافية. ولا فنية ولا يخضع لأي معيار فني بعيدا عن رغبات وتطلعات "الممُول" صاحب المال ومن بينهم أصحاب شركات الاعلان.. وحين يكون الشعار "لا صوت يعلو علي توجهات صاحب المال". والمال كما نعرف لا دين ولا وطن ولا ضوابط تقلل من تدفق وسيولة صنابير المال. السياسة الثقافية للدراما التليفزيونية البائسة بعيدة عن سياسات الدولة. والسوق الفضائي مفتوحة سداح مداح بلا حاكم ولا لجام ولذلك فإن علي الدنيا السلام. المؤلم أنه وسط هذا العدد الكبير من المسلسلات يوجد أعمال تطرح موضوعات جادة وتقدم تناولا فنيا جيدا ولكن هذه الأعمال نفسها تتضمن مشاهد وحوارات طفيلية مبتذلة وقبيحة وسلوكيات يتنافي عرضها بالأسلوب الذي عرضت به مع قواعد اللياقة. وتدل علي انفلات متعمد ورغبة مبيتة علي تضمين السفالة والتدني الاخلاقي والعنف والجنس المكشوف داخل العمل ومن ثم افساده ولفت النظر الي بجاحة وجرأة غير محمودة ولأن المطلوب تطبيع هذه الصفات وجعلها ضرورة حتمية في بنية الشخصية المصرية والشباب بصفة خاصة. كثير من المشاهد لن يَغيُر حذفها من تأثير المسلسل ولا قيمته كعمل جذاب لا يحتمل كم الاعلانات المُزعجة التي تتوالي وتقطع مساره السردي فما يسعي اليه صُناع "الأفكار" من هذه المشاهد المشوهة هو خلق صورة ذهنية متدنية ومسيئة للمجتمع الذي يتعرض لأوسع حملة تشويه وهدم وطمس عمدي لهويته. والدراما والاعلانات "المُعَلقة" علي رقبتها وفي وسطها وأطرافها جزء من هذه الحرب. ولو اضفنا العلاقة الغرامية الحميمة بين "الدراما" والاعلام ممثلا في بعض رموزه المؤثرة. وبين الاعلان وقنواته التي يملكها بعض اساطين هذا النوع الفني لو أضفنا ذلك إذن لتصورنا حجم الهجمة الشرسة علي أنفاس وهوية هذا الشعب الذي لو كسرته ولوثت عقله وشوهت شبابه وتسللت إلي بنيته الانسانية والثقافية لوصل اعداؤه الي المُراد ألا وهو تقطيع وتفكيك بنيته الأساسية المتمثلة اولا وأخيرا في قوامه البشري المتماسك والمتسق مع ثقافته وتاريخه وكينونته في المكان والزمان "الجغرافيا والتاريخ". فلو تأملنا الأعمال الدرامية سنجد مفردات ثابتة في لغة التغبير والافعال وردود الأفعال وستجد ذلك الزج المصطنع لمشاهد الرقص البلدي القميئة ومن دون داع حتي في المسلسل الذي يطمح ضمن ما يطمح الي معالجة فترة حساسة في تاريخ المجتمع المصري. وستجد بالضرورة غانية. راقصة. فتيات داعرات بالفطرة وستات بيوت بملامح مستعارة من الفتوات وبائعات الهوي ولابد من وجود مطرب شعبي بهيئة واداء خشن وزاعق وكلمات تضيعه في قاع هذا النوع من الفن الذي ضم مطربين شعبيين مازالت اغانيهم مهضومة للآن. التشوهات موجودة علي نحو مصطنع وطفيلي لأن الاستغناء عنها لن يهم الدراما ولا يهدد عنصر الترفيه والتسليه المطلوبة. ومن المفردات أيضا الصورة النمطية المستفزة وطريقة ضحك "النسوان" والممطوطة بابتذال متعمد وباعتبار أن هذا يعتبر ملمحاً من ملامح الواقعية بالاضافة الي اللغة المسفة التي لم تعد تعرف حدودا للابتذال ثم الشكل النمطي المكرر للمرأة الشعبية بملابسها وهيئتها وحُليها ومكياجها ولغة جسدها الداعرة. لايوجد مسلسل واحد يخلو من استعراض مُزعج ومبالغ فيه من اشكال العنف. ولا يمكن أن يكون هذا الالحاح في استخدام مشاهد العنف والامعان في تصويره وتصميم المشاهد الخاصة به مُبررا بحجة أن المجتمع مليء بالعنف ومن ثم تبرير وجود نماذج من الشباب الفاسد المدمن الغارق في العنف والذي يُقدم إلي المتفرج باعتباره البطل الوسيم ذا الشعر الطويل علي غرار فتوات المافيا والجدع والشهم والأصيل الخ الخ. هناك من ضمن السمات المميزة للدراما المصرية الحاح سافر ولافت للنظر علي استخدام اللغة المشوهة المنتشرة علي ألسنة الشباب المنحرف في المقاهي وغرز الحشيش. وهناك عدم نضج واضح في مفهوم الواقعية والتعامل مع أسوأ مظاهر الواقع باعتبار أن هذا هو الواقع "واللي مش عاجبه ينتقل الي قناة أخري مغايرة" فهكذا يبررون جرائمهم في حق المتفرج. المتابع للدراما المصرية في السنوات الأخيرة يلحظ تكريسا لطبعة قديمة لصور "الفتوات" ولصور البلطجة وكذلك يلحظ وجود ممثلين تخصصوا بسبب ملامحهم وتمرسهم في تجسيد انماط مُكررة تظهر ضمن الصورة الثابتة في المجتمع المصري "الواقعي" الذي ينقلونه علي الشاشة. بقول آخر تصر جماعات هذه الصناعة الضخمة علي الزج عمدا حتي في النصوص الجادة أو التي تسعي الي معالجة جادة لاحدي مشكلات المجتمع علي فرض المشاهد والشخصيات العنيفة والمنحرفة جنسيا ومزاجيا والخارجة عن التقاليد والصادمة لذوق النسبة الأكبر من المصريين بغض النظر عن الفروق الاجتماعية.. فارق بين "الواقعية" كمدرسة وتيار في الفن وبين استغلال تشوهات الواقع وتسويقها للعالم. من المسئول عن هذا؟ هل هو المؤلف المستسلم لرغبات المُنتج. أم المُنتج المستسلم لأغراض شركات الاعلان أم أصحاب رءوس الأموال وراء الشركات المنتجة؟؟ تاريخ الدراما التليفزيونية في مصر يكشف عن جانب من الاجابة أو علي الأقل يفتح الباب أمام استنتاجات قد لا تكون كلها دقيقة. فالأعمال الدرامية الوطنية التي تفاعل معها الجماهير في مصر في حُقب سابقة وخرجت للشاشة في فترات مد وطني واستقرار سياسي وقيمي واجتماعي نسبي وانتعاش لمشاعر الانتماء أمام حلم قومي واحد ولم تكن جماعات الظلام قد خرجت من خنادقها واظهرت عداءها المفرط لفكرة "الوطن" وتعاونت بعلم منها أو بتواطؤ من "مرشديها" مع قوي الاستعمار العالمي المتربصين والمستعدين للاجهاز علي مقدرات المنطقة ومصر في المركز منها. ومنذ فترة ومصر تعاني من عمليات تجريف ظاهرة وخفية ويدفع شعبها من دم ومستقبل ابنائه سنوات من المعاناة والتخلف وضيق ذات اليد. والجهل والمرض.. الخ. والفن كظاهرة اجتماعية بدوره يدخل ضمن المنظومة التي عانت من غياب الإبداع والمبدعين القادرين علي التطوير ودفع المجتمع الي الامام من خلال الانحياز للأفكار التي تقوي الوعي وتروج للنماذج القادرة علي التغيير والتبشير بالمستقبل.. حدث تجريف للمواقف وإقصاء لاصحاب الافكار المستنيرة. وفي المرحلة الآنية أظن وليس كل الظن إثماً تدخل الدراما التليفزيونية الي جانب الاعلام المرئي خصوصا ساحة الصراع القائم بقوة حتي وان لم يكن منظورا بين القديم الفاسد والمستقر والمرتعد من فكرة التغيير والحركة نحو المستقبل وبين تيارات تسعي الي تغييرات ثورية والي استئصال الفساد من جذوره وانتشال المجتمع وطبقاته غير المحظوظة التي عانت طويلا من هوة العوز والاحتياج. هناك صراع محلي يدركه الجميع وصراع دولي لا يحتاج الي دليل. وهناك سفينة الوطن تقودها جماعة وطنية تجاهد من اجل الوصول في خضم هذا الصراع من أجل الوصول الي بر أمان. لقد نجحت القوي القديمة في تحويط المجتمع بعشوائيات يسكنها المحرومون والمنحرفون والخارجون علي القانون جيران الموتي ونجحت هذه القوي نفسها بما نهبته من أموال وأراض وامتيازات بلا حدود أن تخلق جماعات فنية تحول الفن الدرامي الي عشوائيات تطمس الجمال وجوهر الانسان المصري وثقافته الأصيلة وتزرع في ذهنه صورة مشوهة عن نفسه وعن نسائه وشبابه ورجاله وتاريخه وثقافته وفنونه. فالصورة ليست كلها "حُثالة" والواقع لايقتصر علي البلطجية وبياعي الملذات والمكيفات والنسوان القادرة غير المحتشمة.. الصورة الواقعية الآنية مليئة بما يوفر مشاعر التفاؤل.. فلا تشوهوا الفن الواقعي بثقافة وفنون "الحُثالة".