يشكو العاملون في مجال الدراما التليفزيونية من "غزو" المسلسلات التركية ويري محررو الصفحات الفنية ان موضوع "الغزو" هذا جدير بالمناقشة باعتباره مشكلة تهدد هذه النوعية المهمة من الأعمال الفنية. وحين يوجه أحدهم لشخصي المتواضع السؤال حول هذا الموضوع. أكاد لا أخرج عن نفس الإجابة في كل مرة. وابدأها بتساؤل حول "السؤال". وهل هذا الرواج التركي يمثل غزواً؟؟ وإذا كان كذلك فلماذا لا نري في الأفلام الأمريكية الهوليودية غزواً يهدد صناعة السينما الوطنية؟ وهوليود بالمناسبة تحاصر جميع السينمات الوطنية ومن دون حرب ولا غزو ولا شكوي. انه التنافس وليس الغزو الذي قد لا نكون قادرين علي مواجهته. ومع ذلك فإن الدراما عندنا بلغت مستويات لا بأس بها ومن حيث الكم عدداً لم يتحقق من قبل في الموسم المنصرم.. وعدد المسلسلات العربية والمصرية لا يقاس إلي جانب الأعمال التركية المعروضة. ولكن الفارق الرئيسي يعود إلي ردود الفعل الايجابية التي تحققها. والإعجاب الكبير المتزايد بالممثلين والممثلات ثم القيمة الانتاجية العالية التي تنعكس في عناصر الديكور والاكسسوارات والملابس وأيضاً في مستوي الجمال البصري الآخاذ للمناظر والمستوي الحضاري المتقدم للسلوك البشري البادي في أسلوب الأداء اللفظي وفي لغة الجسد وفي التعامل والتفاعل بين الشخصيات المرسومة. ألبوم النساء الأتراك في الأعمال الفنية فاتن وأخاذ ورقيق. خذ عندك الألبوم المصري المقابل الذي يصدمك أحياناً وأنت تتابع الدراما المحلية. المرأة المصرية أصابها من الترهل والذوق الغليظ في المظهر ما يثير السخط فضلاً عن الألوان الثقيلة في عنصر المكياج والرموش الصناعية والخدود المنفوخة والباروكات وصبغات الشعر الفجة ناهيك عن الصوت العالي والصخب الخادش للاذن والابتذال التقليدي المألوف. "الغزو" يعني ان هناك اقتحاماً لأرض الدراما. واحتلال المشاعر الجمهور وجذبه عنوة للفرجة. والأعمال الدرامية سلعة تجارية قبل ان تكون فنية وثقافية. وهي بطبيعة الحال صناعة مكلفة مادياً جداً وتسويقها يمثل مطلباً ضرورياً لصُناع هذا الصنف. ومن هنا تبدو كلمة "غزو" مصطنعة والترويج لها من قبل المحررين الفنيين يعتبر اساءة ولو لم يلتفت لها الأتراك. ومن الذي يقف وراء عمليات "الغزو" هذه؟! انهم المصريون أصحاب القنوات الفضائية العامة والخاصة. وأصحاب القنوات المتخصصة في عرض الأعمال التركية فقط وحصرياً وهؤلاء ليسوا اتراكاً ولكنهم "تجار" بشكل أو آخر ويسعون إلي الرواج ومكسب الاعلانات. أريد ان احكي حكاية طريفة في هذا السياق: تأتيني للمساعدة في الأعمال المنزلية شابة خرساء لا تسمع ولا تتكلم ولكنها شديدة الذكاء. وقد صارت بيننا لغة اشارة مفهومة. وعندما تنتهي من عملها تتفرغ للتسلية الوحيدة المبهجة في حياتها. ألا وهي الفرجة علي التليفزيون وتحديداً علي قناة "...." التي لا تعرض سوي الأعمال التركية. ذلك لانها لا تقبل سواها. وبدافع الفضول من جانبي أجلس اتأملها أحياناً وهي تستقبل هذه الأعمال دون حاسة السمع الأساسية. وقد ادهشني جداً كم الانفعالات التي ترتسم علي وجهها أحياناً. والتعبير الواضح جداً الذي يعكس نوع المشاعر حزناً أو فرحاً إلي حد البكاء أحياناً وأمام رغبتي في إقامة "حوار" حول رأيها فيما تشاهده. أجدها - حسب ما يصل إلي فهمي - التقطت الخطوط العامة للحبكة والمعاني وراء ردود الأفعال. الأمر الذي يعني "وصول" المعني والأهم المشاعر والحالات النفسية التي تعيشها الشخصيات ومن ثم قدرة ونجاح هذه الأعمال في التواصل والتأثير وتحقيق الهدف الرئيسي الذي ينحصر هنا في عنصر الترفيه وإشاعة البهجة. قبل ان تتركها أمها بعد ان تقوم بتوصيلها عندي توصيني بضرورة فتح التليفزيون ل "رشا" علي القناة "الفلانية" وهذا ضمنياً شرط من شروط العمل علي ان أقبله برحابة صدر. إذن "الغزو" ليس غزواً بالمعني السلبي والمنع صار مستحيلاً في زمن السماوات المفتوحة والتنافس المفروض صار فريضة بين صناعات الترفيه الجماهيرية المختلفة.. وما يحدث الآن من خلال قنوات الايصال المتخصصة في أمور أخري أكثر تأثيراً وضرراً وخطورة في الحقيقة علي الإنسان هو ما تستحق التحقيق حولها - خصوصاً وانها توجه "أيدولوجيا" المتفرج وتدفعه ربما إلي قناعات معينة وهي تأتينا من روافد بعينها. ومن "أفخاخ" ذات ثقافات وتكوين خاص يقذف بنا إلي عصور لم تعرف طاقات النور.. نور الكهرباء ونور العلم والمعرفة والوعي.. ورغم ذلك لا تجد من يتصدي لها ولا يلتفت لحجم الضرر الاجتماعي من ورائها ولا تمثل هماً ولا تهديداً ولا "غزواً" بالنسبة لصناع الدراما المحلية والواقع إنها تمثل كل هذا فعلا لكنهم لا يدرون ذلك لانها تحرم الفن من أصله. وتلغي المتعة العقلية والوجدانية بل وتحرم حتي "البلبطة" مع أمواج البحر لانها شكل من أشكال الزنا والعياذ بالله.