في سنة 1908. أي منذ 110 سنوات. بدأت جريدة "المنبر" في نشر رواية محمود طاهر حقي "عذراء دنشواي". كانت حادثة دنشواي التي أعدم فيها بعض الفلاحين بتهمة قتل ضابط انجليزي أصيب بضربة شمس. وأرسلت المشانق إلي دنشواي من قبل أن تبدأ المحاكمة. كانت تلك الحادثة بمثابة الهزة العنيفة لصحوة هائلة شملت أبناء الأمة جميعاً. بل إنها أضحت دافعاً قوياً للثورة الشعبية الهائلة في عام .1919 وكما قال أحد الكتاب الانجليز فقد "أظلمت هذه الكارثة الأيام الأخيرة لكرومر في مصر. وأسرعت في رحيله عنها". وقد عرض غالبية المؤرخين لحادثة دنشواي علي أنها حادثة ضباط انجليز خرجوا للصيد. فأحرقوا جرناً. وحدث ما حدث. لكن قيمة رواية "عذراء دنشواي" "صدرت الطبعة الأولي ككتاب في يوليو 1909" كما يقول يحيي حقي أن مؤلفها لم يصطنع أشخاصه اصطناعاً. بل أخذهم بأسمائهم ومواطنهم ومهنهم من واقع الحياة. رواج كبير كتب محمود طاهر حقي الرواية عقب الحادثة مباشرة. وكما يقول الفنان فقد لاقت جريدة "المنبر" رواجاً كبيراً بمناسبة نشر الرواية فيها. وكان حكمدار العاصمة منسفلد باشا يرجوه أن يخفف من لهجة الرواية مراعاة للأمن نتيجة الانفعال الجماهيري. كانت عذراء دنشواي أول رواية مصرية مؤلفة تصدر في عدة طبعات. كل طبعة بآلاف النسخ. تنفد فور صدورها لتصدر طبعة أخري. واستطاعت وكلام ليحيي حقي أن تهيئ أذهان عامة القراء لتقبل الفن القصصي "فالروايات التي بين أيدي عامة القراء في عهدها قليلة جداً. وأغلبها مترجم يقصد به التسلية. وبعضها مؤلف. ولكن لا يتصل بوجدان الشعب. فهي إما روايات تاريخية عن عهود مضت. قصدها الإشادة بالأمجاد. وإما روايات تهدف إلي الموعظة. وتقام علي سيل من الحكم والأمثال. فجاءت عذراء دنشواي تربط الرواية لأول مرة بوجدان الشعب في معاصرة واقعية. بالإضافة إلي أن عذراء دنشواي هي أول رواية مصرية تتحدث عن الفلاحين. تصف حياتهم ومشكلاتهم. وتنقل لنا لغتهم كما ينطقونها بلهجتهم وأسلوبهم ودعابتهم. فيدل كل هذا عليهم.. وأكاد لا أعدو الحقيقة كثيراً إذا قلت إن عذراء دنشواي هي البذرة التي مهدت في نظري لمحمد حسين هيكل أن يكتب في سنة 1912 رواية زينب. وجعل حوادثها تجري في الريف. وبعض أبطالها من الفلاحين. وأن عذراء دنشواي تمسكت بأطراف أهداب الواقعية. علي حين غرقت زينب في رومانسية شاعرية لا تقبل الأضداد. محاكمات ظالمة والواقع أن رواج رواية عذراء دنشواي إبان صدورها لم يكن لقيمتها الفنية. بقدر ما كان تعبيراً عن الشعور العارم الذي خلقته حادثة دنشواي وما تلاها من محاكمات ظالمة وأحكام بالجلد والسجن والإعدام. ويقول محمود طاهر حقي إنه ألف عذراء دنشواي بعد الحادثة مباشرة وكانت أولي رواياته وقد نشر أجزاءها يومياً في جريدة "المنبر" ولاقت الجريدة رواجاً كبيراً بمناسبة نشر القصة فيها. فكان الحكمدار يطلبني في إدارة الجريدة وكانت بجانب المحافظة ليرجوني أن أخفف من لهجة القصة. حفاظاً علي الأمن لتوتر الأعصاب من جراء هذا الحادث الأليم. فكنت أستمع في بعض الأحيان إلي نصحه. مما كان له أحسن الوقع في نفسه. يضيف يحيي حقي أن محمود طاهر حقي لم يكن يملك كل حريته وهو يكتب عذراء دنشواي فقد كان سيف الإرهاب يمس الرقاب. وقد أخبرني بنفسه ولا أخاله إلا صادقاً أنه تعرض لتهديد شديد من الحكمدار الانجليزي للعاصمة. ومع أن يحيي حقي اعتبر زينب أول رواية مصرية فنية متكاملة فإنه يقدم رواية عذراء دنشواي بأنها أول رواية مصرية تتحدث عن الفلاحين تصف حياتهم ومشاكلهم وتنقل لنا لغتهم كما ينطقونها بلهجتهم وأسلوبهم ودعابتهم. فيدل كل هذا عليهم. والإطار هو مناظر الطبيعة في الريف: سماؤه وأشجاره. ليله ونهاره. حقوله وأجرانه. زرائبه وأبراج حمامه. إنها أول رواية تدخل الفلاح في نطاق الكرامة الإنسانية. بل تنظر إليه نظرة تمجيد. ارتفع مجلس الفلاحين للسمر ونظر الشكاوي في عذراء دنشواي إلي مقام أعرق نوادي المثقفين في المدن الراقية بكل معانيه. إذ أعضاؤه من طبقة واحدة وفكر واحد. ويشتغلون بمهنة واحدة. وللقرويين حرية في الفكر والمناقشة. فللابن أن يحاج أباه. وللأخ أن يناقش أخاه. وللمرأة حظ الاجتماع والمناقشة كالرجل سواء بسواء. ويقول يحيي حقي في دمعة فابتسامة: صدقني إذا شهدت لك إنه لم يحدث لرواية أخري وربما إلي اليوم أن أقبل الناس علي قراءتها مثل إقبالهم علي قراءة عذراء دنشواي. لا لأنها عرفت كيف تركب موجة الانفعال الشعبي. بل لأنها عرفت أيضاً. بالغريزة والسليقة. كيف تصب حادثة دنشواي في قالب فيه من الفن القصصي أنفاسه. إن لم يكن عطره كله. احتضنها جيلها. واحتضنها الجيل الذي يليه. عذراء دنشواي تستمد قيمتها من تفوقها الفني. بالقياس إلي الأعمال السابقة لها. بالإضافة إلي اقترابها الحميم وهذا هو السبب الأهم من المشكلات الآنية للمجتمع. لكن الإرهاصات في علم الدين لعلي مبارك. ولوحات النديم. وليالي سطيح لحافظ إبراهيم. وليالي الروح الحائر لمحمد لطفي جمعة. وزينب لمحمد حسين هيكل. وغيرها. كما أضافت ترجمات السباعي والمنفلوطي والزيات والجميل والمازني لإبداعات كبار الروائيين الأوروبيين.. أضافت تلك الترجمات إلي فن الرواية المصرية من خلال أصول الرواية في أوروبا.