أيام طفولتي الأولي. بلحومها. بفومها. وعدسها في كثير من الأحيان. بحلوها ومرها. بنسمات الهواء الطرية. التي تنسل برفق. تلفنا بالثلج والبرد. كموج البحر تأتي. تطوي أفكاراً وأشخاصاً. وتبث في شرايين حاضرنا باللافح من مستجدات عادات وتقاليد تبقي قليلاً. ولا تترفق بنا. تطردنا بلا هوادة. تلك الأيام. من حظيرتها؛ نَحِنُ إليها؛ تطارد عقولنا بلا تعب. تتجاذبنا مع أيام الكبار العفنة. أيامي الحُبلي بما ضاقت به خزانة ذاكرتي؛ ففاضت تلون أيامي العطشي لكل ما مضي. تاركة مساحتها لذكري آتية لا محالة؛ لتسكن زوايا النفس الظمأي. في هدوء. بانتظار من يزيل عنها غبار الأيام؛ فتهمي علي أيامي بحلوها ومرها. أي مكان واسع. عندنا. كنا نسميه جبلاً. كان جبلنا. يفتقد لمقومات الجبل المعروفة فلا ارتفاع. ولا أرض صفراء. ولا زلط. فقط أرض منبسطة. صحراء واسعة سعة عقولنا الصغيرة. آنذاك؛ لا جبل. ولا تل. ولا حتي ارتفاع بحجم مطب. يعني لا جبل ولا يحزنون. كانت أيام تداعبنا فيها الذكري: - صدعونا. وجعوا دماغنا. احفروا خنادق.. احفروا خنادق؛ نهشت أظافرنا الصغيرة. وأظافر فلاحينا جبلنا حتة. حتة. سخر جمال خلاف من رشدي محروس: - ده خندق ده ؟! ده يدوبك ياخد كف المرجاوية. وتلوي علي الأرض ساخراً.. وانتوا عارفين كف المرجاوية يا شباب!. وتوالت تعليقات الرفاق كصفعات حادة: - طيب وباقي أجزائها نعمل فيها إيه؟ - نعلبها - نتبرع بيها للفقرا - نوديها المتحف جنب الفراعنة كان لصوت المرجاوية. وهي تعلم جارتها وسط أقرانها بعضاً من الأدب. الذي افتقدته أثناء حديثها معها. فعل السحر في تخفيف حدة الضحك والسخرية التي انتابتهم. بل والانصراف من منطقة نفوذها قبل أن تمسح بكرامتهم. جميعاً. أرض الجبل. آه يا جبلي! أنت. فقط. أرض منبسطة. بلا اتساع كبير. بعض الحفر الناتجة من تخلص النساء من نفايات استحمامهن. وغسيل ملابس الأولاد كل يوم. وطئك الرُحَلُ منذ زمن بعيد. كانوا يأتون بأغنامهم. وماشيتهم. يضربون خيامهم. يصنعون خبزهم الشهي من طحين الغلة. وحليب الماعز. كنا نأنس لخيامهم المتناثرة كعش الغراب؛ تَقيهم قيظ الصيف وبرد الشتاء؛ فيعطوننا كِسَراً منه نسد به جوعنا. كان شهياً. وألذ من خبز بيتنا. الذي نتحصل عليه من "الطابونة". بعد عناء الوقوف في طابور طويل. كنت أشعر آنذاك أنه عقاب لنا علي جوعنا. عرب جبلنا يخرج ذكورها صباحاً. في تشكيلات منظمة. يرافقون ماشيتهم إلي المرعي في الغيط. أي غيط. يأكلون بقايا زرع خلفها الله لهم. بينما ملكاتهم يمكثن بالخيام يصنعن الجبنة القريش. والخبز من حليب الأغنام. عينان خضراوان من خلف "يشمك" أسود. مسدول علي جلباب أسود فضفاض. وكفان بلون الحناء هما كل ما استطاعت عيناي أن ترقبه من صافية. ودغدغت به حنايا قلبي. وتمر بخاطري ذكري المرة الوحيدة التي تلصصت عليها مجروراً بلواحظها؛ لما خرج الرجال وراء المرعي. أمرتني عيناها بشراء مشط؛ أمتطيت الريح ذهاباً وعودة. ومن فُرْجَة بالخيمة؛ رست عيناي علي لؤلؤتين ناعستين علي وجه القمر. تحرسان أنفاً سوياً. وفماً خلته كرزاً يقطر عسلاً مصفي. وخدان يضجان من حُمرة الأنثي. استوت الرأس علي عود من المرمر. رأت عيناي ليلاً طويلاً يضم بامتنان نعمة الله التي استدارت. تسمرت عيناي علي ثندؤتين تنمان عن لؤلؤتين كامنتين. تجمد ريقي. ندت عني صرخة؛ أتتني بعدها صافية. كشفت لي وجهها. ثم مالت علي أذني باسمة: ماتقولش لحد!. عن نفسي كلما تذكرت هذا أبحث عن أقدم جزمة عندي وأضرب بها نفسي 30 مرة. أعطتني كسراً من الخبز. أحلي من خبز بيتنا. ثم أذاقتني طعم العسل علي شفتيها. واختفت. كنا نتجاوز. أنا ورفاقي. معهن. صافية. وقريناتها. نقذفهن أحياناً بالحجارة. وفاحش القول؛ يجرين وراءنا فتهتز خزائن الجمال . ثم تنهكنا التجربة؛ فنلقي بأنفسنا في أحضان أمهاتنا. بعد فاصل من الدعاء. وننام. - يا ابني دول بدو. رحل. يسعون وراء الماء والخُضْرَة في أي مكان. كنت أخجل من أبي. في محاولة مني لاستيعاب كلماته. التي تعني بكل وضوح أنني لن أراها بعد الآن. كانت عيناي في الأرض أبحث بهما عن أي مخرج من هذه الورطة؛ فلم أجد. وضعت رأسي بين ركبتيَّ. أواري بهما حزني الدفين. طلبت مني ذات مرة أن أحملها. حتي الآن لا أدري لِمَ؟!. قبلتها. ولم تصفعني كما فعلت مع سعيد عبد المعز. الذي ألقت به في بركة الماء التي خلفتها الأمطار. وروث البهائم؛ فضحكنا جميعاً حتي طالتنا المياه. وروث البهائم نحن أيضاً. أذكر أن سعيداً لم يقربها بعد ذلك نفسي. انسابت الدموع علي خديَّ. وطالت جلبابي. الذي لم يعد أبيض. خلا الجبل لنا؛ فقسَمْنَاه ملاعب للكرة نهاراً. كانت ميداناً لمشكلات يومية مع محمد هجرس. ومجدي قنصوة ممثلا النحافة بيننا. ولا أستثني نفسي. والطويل محمد خناني. وغنيمي النجاحي. وغنيمي أحمد عبد الله أشباه الديناصورات. اللذان تطاولا في البنيان. وقد خلت أقدامهما من النِعَال. لم نكن نعبأ - أنا ورفاقي طبعاً- بأهلنا. كنا نرهقهم ليلاً. ونقطع أنفاسهم بالجري وراءنا من شارع لشارع. ونختبيء في الأماكن الخَرِبَة. وخلف الأشجار والأسوار بعد أن تنقطع أنفاسنا. نحن أيضاً. بألعابنا الشعبية: الاستغماية. ثَبِتْ. وعنكب شد واركب. وطاقية في العِبْ. وصَلَحْ. وعسكر وحرامية..... وغيرها من الألعاب. التي تلهينا عن الانتباه إلي الوقت الذي يؤرق أهالينا. لم تعد يا جبل العرب جبلي؛ فقد سدوا المنافذ إليك ببنايات ضخمة. غربة قاسية تشملني. كم أفتقدك الآن يا جبلي! . أفتقد الرفاق رغم مشاكلهم. ورغم الضجيج! أفتقد المكان الرحب. الذي هو بمثابة القلب لي وللرفاق. مازلت أفتقدها! تسمعت أذناي وقع قدميها. تشممت طيب عطرها. كان بنطالها "الجينز" يحكم قبضته علي فخذيين ممتلئين. وقميصها الأبيض ينحسر عن نهدين بلون الورد من أعلي. بينما عقدت أسفله علي شكل فيونكة؛ فبانت صُرَتها و شُفْت.... تجاهلت ابتسامتها. وهي في طريقها لإحدي البنايات. وقد لطخت وجهها بأصباغ مخزية؛ حزمت أمتعتي. واتجهت إلي المطار من حيث أتيت. أيقنت. آنذاك. أن صابحة قد ماتت. وأنك يا جبل العرب لم تعد جبلي.