صناع السينما الشباب يهرولون في اتجاه "نافذة" أخري غير "شباك التذاكر" في دور العرض السينمائية المحلية في مصر. فلم يعد يهمهم كثيراً الذوق السائد لدي جمهور التيار الرئيسي للانتاج الوطني. ولا يعنيهم الجمهور أيضاً الذي أودع في شباك التذاكر ملايين لحساب أفلام من نوعية "الخلية" أو "هروب اضطراري" أو "الكنز" أو حتي "القرد بيتكلم" وكلها ضمن عروض 2017. ولكن نفس هذا الجمهور بأذواقه التي تنحاز لأفلام الحركة والتشويق والإيقاع اللاهث إلخ. التوليفة الجذابة. لم تخذل أفلاماً من نوعية "الأصليين" برغم شروده عن هذا التيار. ولا الفيلم الذي سبقه لنفس الطاقم الفني "الفيل الأزرق" بل إنه إنحاز أيضاً لفيلم علي غرار "مولانا" بينما أدار ظهره تماماً "لأخضر يابس" و"علي معزة" وغيرهما علي نفس المنوال. لكن الشباب السينمائي من الأجيال الأكثر حداثة اكتشف أن باب المهرجانات السينمائية يمكن أن يصل به إلي أكثر من "نافذة" من تلك التي تلتقط التجارب الغريبة بموضوعاتها العاكسة والمعبرة عن أفكار تكسر المألوف والثابت وتروج لصور القتامة والإحباط والانكسار من خلال الحبكات التي تنتهي بالشخصيات إلي نفق معتم ومسدود اجتماعياً وسياسياً وإنسانياً. وتشيع أحياناً صورة ذهنية لبلد غارق في السواد. أو في العبثية أو الشذوذ أو الفوضي ومثل هذه التجارب لا تجد سوقاً رائجة وسط الجمهور المحلي لا تفي بالغرض الرئيسي لتجربة "الفيلم" وأعني "الترفيه" وبالتالي لا تحقق إيرادات بطبيعة الحال لأنها تتجاهل هذه الوظيفة الأساسية. باب المهرجانات بات مفتوحاً علي مصراعيه خصوصاً بعد أن تمددت وانتشرت وأصبحت ترحب بتجارب الشباب من العالم الثالث. وتري في تجاربهم مذاقاً غرائبياً خاصاً ومختلفاً وتمنحهم الجوائز. وتصبح هذه الجوائز مناسبة جيدة تحتفي بها وسائل الإعلام وتلقي الضوء علي صناعها. الذين تشاهدهم في برامج "التوك شو" المحتاجة عادة وذلك في محاولة للتحليل أو الفهم أو لماذا يهجرها الجمهور المحلي بينما يسعد في نفس الوقت بتجارب أخري تحقق نجاحاً كبيراً برغم خلوها من النجوم الكبار ومن الإبهار ومن التشويق أو الابتذال بمفهومه التجاري وأتذكر هنا تجارب من نوع "إسماعيلية رايح جاي 1998" أو "فيلم ثقافي" ..2000 وإلخ. الشباب إذن بتجاربه "المستقلة" أصبح يمتلك أدوات الانتشار خارج حدود بلاده. فقد عرف طريق المهرجانات الدولية ومنها مهرجانات عربية تجاوزت أهميتها بالنسبة لصانع الفيلم المصري أهمية مهرجان القاهرة. ويستطيع تقديم فيلمه للمشاركة فيها ولديه مهارات التواصل وقد أصبح شغوفاً بالسفر و"مخنوقاً" بحدود بلده. ملهوفا" علي الحضور في المحافل السينمائية التي تبحث بدورها عن شباب بمقدوره خلق بيئة فكرية وثقافية تسهم في شق تيار مخالف للسائد. وهذه المؤسسات صانعة المهرجانات ليست بعيدة في توجهاتها عن سياسات الدول التي تقيمها. هناك حلم "النجومية" علي طريق "عمر الشريف" حتي بين ممن لا يمتلكون مقوماته شكلاً وموضوعاً. وهناك "القنوات" المؤدية إلي ذلك ولتحقيق هذا الحلم أو الوعد به.. ولكن لهذا مناسبة أخري. تيار له أسبابه هذا التيار من الخواطر حول الاخفاق المحلي الشديد بالنسبة للتجارب السينمائية الجديدة وبين النجاح والخروج بجوائز في المحافل البعيدة يتداعي تلقائياً قبل ان أتناول فيلم "علي معزة وإبراهيم" الذي حظيت مشاهدته مؤخراً في مهرجان القاهرة فتذكرت رحلة البحث عن الدار التي تعرضه حين بدأ عرضه التجاري في القاهرة منذ عدة أشهر. فوجدته "اتشال" أي انتزع من السينما بعد فترة قليلة.. ونفس الشيء صادفته مع فيلم "أخضر يابس" حيث لحقت به في صالة لم يكن بها سواي وخرجت منه مهمومة ليس تعاطفاً مع الشخصية الرئيسية التي دفعها اليأس إلي "فض بكارتها" أمامنا بيدها في دورة المياه احتجاجاً ربما علي التقاليد التي سجنتها داخل أسوار "فضيلة" مزعومة اسمها "العذرية" والتي لم تعد تستحق الحفاظ عليها من وجهة نظرها أو ربما قصد المخرج الجريء ان يقدم من خلال هذا المشهد غير المسبوق علي الشاشة المصرية صرخة مدوية في وجه مجتمع يراه منافقاً وعديم الإنسانية وغارقا في العتمة. وقد واجه نفس الفشل المحلي مع النجاح مهرجانياً فيلم "الخروج للنهار" الذي عرض منذ فترة دون ان يشعر به أحد. ولم تشفع لهذه لتجارب الفاشلة في الداخل حصولها علي الجوائز ولم يصدقها أو ينفعل بها الجمهور المعتاد للسينما بحيث نعتبرها "سينما بديلة" أو "مستقلة" بالمعني الأصلي لهذه التسمية ففي بلد مثل أمريكا.. هناك استوديوهات كبري مهولة ومسيطرة ولها قوانين إنتاجية مهيمنة ومن ثم فإن الخروج بعيداً عن حدودها وقواعدها يصبح "استقلالاً" ولكن ما معني "الاستقلال" هنا؟ لا بأس أن يواصل "المستقلون" الانتاج ويقدموا تجاربهم قليلة الميزانية التي تحقق تكلفتها في نهاية المطاف من خلال أسواق أخري غير السوق المحلي ولكننا لا نستطيع أن نتصور وجود سينما بديلة موثرة تثري صناعة الفيلم بتيار مواز من هذه التجارب وفي ظل الانفصال عن السوق الجماهيري للفيلم وعن الجمهور الباحث عن الترفيه والمتعة والأفلام محبطة ولا تحقق البهجة. إن تناول البؤس لا يعني فيلما بائساً أو جافاً. معزة علي لولا هذه "المعزة" لغرق فيلم "علي معزة وإبراهيم" في محيط الكآبة ذاته بشخوصه المريضة نفسياً. المبتلاة بالألم. ولكن شريف البنداري من أفضل مخرجي جيله وتجاربه الروائية القصيرة لا تخلو من ألم وكبد إنساني ولكنها مفعمة بالتعاطف والصدق الفني وتتميز بالحرفية وبالذات في إدارة الممثل. وهو يمتلك حساسية لافتة إزاء جماليات الصورة والتكوينات التشكيلية للمشهد وذلك من خلال اختياره المدقق للأماكن. وهذا الفيلم الأخير الحائز علي جائزة أفضل ممثل في دبي "2016" يبرز هذه المقومات الداعمة له كصانع فيلم مميز. وأكثر ما شدني في هذه التجربة ذلك الجزء الذي يندرج تحت نوعية "أفلام الطريق" أقصد مشاهد الرحلة التي قطعها الصديقان علي وإبراهيم وثالهما المعزة من الإسكندرية إلي سيناء وفيها تتجسد قدرة المخرج في إدارة "المعزة" وانتزاع لقطات لها تخدم السياق السردي وتمنحه جواً من الطرافة والفكاهة. أوجاع نفسية بطلا الفيلم شابان عاطلان تقريباً علي وإبراهيم متقاربان في السن والسكن والمستوي الاجتاعي ويعيشان في بيئة شعبية ليست عشوائية وكلاهما يعاني من كدمة نفسية غائرة. "علي" مفطور القلب بعد أن فقد خطيبته "ندي" أثناء سيرهما علي كوبري قصر النيل. هذه المعلومة تصلنا في النصف الثاني من الفيلم شفهياً. بينما تأثيرها الصادم يبدأ مع بداية الفيلم من خلال العلاقة الحميمة والاستثنائية مع "المعزة" التي أطلق عليها "علي" اسم "ندي" حبيبته التي ماتت غرقاً و"إبراهيم" شاب مصاب بما يشبه الفصام. يسمع أصواتاً عالية تدق أذنه وتؤرق حياته وتحرمه من حياة طبيعية. وهذا العرض "الفصامي" عاني منه جده حتي اضطر ان يصيب نفسه بالصمم وهو نفسه الذي دفع أمه إلي الانتحار "!!" وإبراهيم عازف عود وعاجز بالتالي عن أن يمارس وظيفته. والاثنان يشكلان حالة شاذة. الأول بعلاقته الغريبة مع المعزة فيصبح مثاراً للسخرية وللغضب من أمه. والثاني باندفاعه إلي الانتحار بسبب المعاناة. والاثنان يمتد بينهما جسر من الألم يحملانها إلي دجال "صبري فوزي" أو حسب توصيف الفيلم "معالج روحاني" ينصحهما بإلقاء زلط في المساحات المائية في مصر "البحر الأبيض والأحمر ونهر النيل" وبالفعل يشدان الرحال إلي الإسكندرية ومنها إلي سيناء. السيناريو الذي كتبه أحمد عامر عن قصة لإبراهيم البطوط ليس مألوفاً كما نري وان كان قابلاً للتصديق في ظل بيئة اجتماعية يشكل الخيال والخرافة جزءاً مهماً في ثقافتها الشعبية. وتلعب قيمة "الصداقة" المحور الرئيسي في العلاقات صداقة "علي" "علي صبحي" و"إبراهيم" "أحمد مجدي" وصداقة الأول ب "كاماتا" "أسامة أبوالعطا" إلي جانب الخيط الرومانسي الذي يربط "كاماتا" بفتاة الليل "نور" "ناهد السباعي" ولكن يظل الخيط الرئيسي البارز في هذه العلاقات. هي علاقة المعزة بعلي الذي أصبح اسمه "علي معزة" من فرط تمسكه بها وحبه لها ورفضه القاطع ان يعاملها الناس في الحارة أو حتي أمه باعتبارها "حيوانا". خيوط النسيج إن حياكة هذه الخيوط الغريبة ونسجها داخل إطار "نول" من الغزل الواقعي للشخصيات والبيئة التي أشاعها الفيلم من خلال الصورة والديكور ومظهر الشخصيات وأسلوب أدائهم وحوارهم صبغ الفيلم بلون واقعي يجور علي عنصر الخيال ويدفع بالبيئة الواقعية إلي المقدمة ولكنه في مشاهد أخري لاحقة يستدعي الخيال ويمنح للشخصيات أبعاداً أخري تتجاوز البعد المادي المحسوس.. فالأصوات ليست مجرد هلاوس وإنما متاريس ألم تدفع إبراهيم إلي الانتحار وبنفس الأصوات أو بأصوات أخري أقوي من خارج أذنه يستعين بها إبراهيم لطرد "الأشرار" الذين يلاحقون صديقه ويبتزونه والخلاص منها في نهاية الفيلم يتجاوز المعني المباشر أيضاً. وبنفس الطريقة نجد أن "الماعز" مخلوق أثيري وان "ندي" ليست حيواناً للذبح بل ان ذبحها يشكل مأساة وتهديداً مباشراً لحياة صاحبها. انها روح "ندي" الخطيبة الراحلة ويمكن ان نشطح بالخيال أكثر ونستخرج من اسمها "ندي" معناه باعتبارها أكثر صور المياه نقاء ولها وقع شاعري ساحر. وللماء في الفيلم حضور قوي يفجر الرحلة إلي الإسكندريةوسيناء والنهر حسب وصفه "المداوي الروحي" لأوجاع "علي" و"إبراهيم" وكلها أشياء لا يصدقها المنطق واستيعابها يمر عبر الخيال وحده. ندي المعجزة ان أجمل ما في هذا الفيلم شخصية ندي الماعز الذكية جلابة الخير. ومصدر السلوي والعنصر الذي كان لها السند الكبير خلال رحلة الصديقين فقد كانت ندي وعلاقتها الحميمة ب "علي" المصدر الرئيسي للفكاهة والشهادة الأكيدة علي مهارة المخرج في إدارة الحيوان علي النحو الذي يخدم المسار السردي للفيلم. والمشاهد التي تصورها علي الطريق السريع في سيناء بجماله ومناظره الطبيعية مناظر مريحة للعين ولعملية الفرجة وكذلك شهادة مؤكدة علي حساسية المصور وحسه الجمالي وقدرته علي اختيار الزوايا وصناعة "كادر" سينمائي غني مفرح للعين "المصور عمر فاروق". وهناك من عناصر التفوق في هذا العمل غير المألوف التوفيق في اختيار طاقم الممثلين ومن ثم وضع ممثل مغمور في بؤرة الاهتمام والحصول علي جائزة التمثيل في مهرجان دبي فقد اتسم أداؤه بالعفوية وبلا ذرة تكلف رغم ان دوره ليس واقعياً وعلاقته مع "الماعز" لا يمكن ان تكون مقنعة إلا بفضل مثل هذا الأداء الفذ. أيضاً شخصية "كاماتا" سائق الميكروباص لا تملك إلا أن تصدقه ولا تتردد في قبول زواجه من "نور" "ناهد السباعي" برغم ندرة حدوثها وسط هذه البيئة. ولكنها عولجت علي المستوي الإنساني. فالإنسان بقدر استعداده للتوبة وليس بقدر آثامه في الماضي. الشخصيات في مجملها جيدة ومرسومة بفهم وبعد نظر وببراعة واقعية خاصة شخصية أم "سلوي محمد علي" وحتي شخصية الجد "جميل برسوم" في حين ان شخصية ضابط الشرطة "آسر ياسين" الذي ظهر في مشهد واحد بمضمون سييء. فسوف نراها كثيراً بهذه الخبطات الموجهة السريعة السلبية في سينما هؤلاء المخرجين الجدد المتمردين ما علينا فما فعله الضابط في "علي معزة وإبراهيم" منطقي للغاية وليس درباً من السلوك الفظ علي النحو الذي قدمه الممثل. فالمخدرات يمكن إخفاؤها حتي في الملابس الداخلية جداً فما بالك بلعبة مثل "دبدوب" ضخم ومحشو بالقطن. وللموسيقي "أحمد الصاوي" أثرها المحسوس في تعميق الجانب الإنساني لجوهر الرسالة التي تحملها العلاقات والحب الذي تدور فيه الأحداث. الفيلم راهن مخرجه في عمله الروائي الطويل الأول علي "معزة" وجعل منها "نجمة" ونحن في بلادنا لم نعتد وجود نجوم من الحيوانات علي غرار هوليود التي تمتلك ألبوماً من هؤلاء "النجوم" ومن كافة الأنواع. أتوقع ان يجد هذا الفيلم قبولاً وإعجاباً هائلاً عندما يعرض علي جمهور التليفزيون برغم اختلافه عن المعتاد والدارج في الدراما السينمائية وربما الاختلاف هذا يمثل الجانب الجذاب في هذه التجربة.