خمسة وعشرون عامًا مرت. السبت الماضي. علي رحيل الأديب الكبير يحيي حقي . صاحب "قنديل أم هاشم" و"عطر الأحباب" وغيرها من الأعمال المهمة ورغم مرور هذه السنوات فإن الأديب الكبير يظل حاضرًا بقوة بأعماله المهمة وشخصيته الإنسانية الآثرة. ربما لاتعرف الأجيال الجديدة الكثير عن يحيي حقي . وتلك مهمة وسائل الإعلام والتعليم التي يجب أن تقوم بها في التعريف بواحد من أهم وأبرز الكتاب المصريين الذين لم يأخذوا حقهم الإعلامي والنقدي بالشكل الذي يليق بإنجازاتهم. كان يحيي حقي واحدًا من أبسط الكتاب وأعمقهم في الوقت نفسه. كتب قصصه ورواياته ومقالاته ببساطة آثرة . لكنها حملت عمقًا لايقبض عليه سوي كاتب كبير يمتلك من الوعي والموهبة والثقافة الكثير والكثير. وتعد جريدة "المساء" من الصحف الأثيرة لدي يحيي حقي الذي كتب فيها المئات من المقالات والدراسات فترتي الستينيات والسبعينيات. وجمعها في عدة كتب بعد ذلك . ومن بينها كتاب" فكرة فابتسامة". وغيرها من الكتب التي تمثل جميعها إضافة مهمة ونوعية للمكتبة العربية. ولد "يحيي حقي" في 17 يناير 1905 في بيت صغير من بيوت وزارة الأوقاف المصرية ب "درب الميضة" وراء "المقام الزينبي" في حي السيدة زينب بالقاهرة؛ لأسرة تركية مسلمة متوسطة الحال غنية بثقافتها ومعارفها. هاجرت من "الأناضول" وأقامت حقبة في شبه جزيرة "المورة". وقد نزح "إبراهيم حقي" توفي سنة 1890. أحد أبناء هذه العائلة إلي مصر في أوائل القرن التاسع عشر. قادما من اليونان. وكانت خالته السيدة حفيظة المورالية "خازندارة" بقصور الخديوي إسماعيل ؛ فتمكنت من تعيين قريبها الوافد في خدمة الحكومة. فاشتغل زمناً في دمياط ثم تدرج في الوظائف حتي أصبح مديرًا لمصلحة في بندر المحمودية بالبحيرة ؛ ثم وكيلًا لمديرية البحيرة ؛ هذا الرجل هو جد يحيي حقي. وقد كون "إبراهيم حقي" أسرة تركية مصرية؛ فأنجب ثلاثة أبناء هم علي الترتيب محمد والد يحيي حقي. ومحمود طاهر حقي ولد في دمياط سنة 1884م .وتوفي في يناير 1965م. وهو الأديب المعروف. وأخيرًا كامل حقي توفي في 2 مايو 1972م تلقي يحيي حقي تعليمه الأوليَّ في كُتَّاب "السيدة زينب". وبعد أن انتقلت الأسرة من "السيدة زينب" لتعيش في "حي الخليفة". التحق سنة 1912 بمدرسة "والدة عباس باشا الأول" الابتدائية بحي "الصليبة" بالقاهرة. وهذه المدرسة تتبع نفس الوقف الذي كان يتبعه "سبيل أم عباس" القائم حتي اليوم بحي "الصليبة". وهي مدرسة مجانية للفقراء والعامة. وهذه المدرسة هي التي تعلم فيها مصطفي كامل باشا. قضي "يحيي حقي" فيها خمس سنوات. وفي عام 1917 حصل علي الشهادة الابتدائية. فالتحق بالمدرسة السيوفية. ثم المدرسة الإلهامية الثانوية بنباقادن. ومكث بها سنتين حتي نال شهادة الكفاءة. ثم التحق عام 1920م بالمدرسة "السعيدية". انتقل بعدها إلي المدرسة "الخديوية" التي حصل منها علي شهادة "البكالوريا". ولما كان ترتيبه الأربعين من بين الخمسين الأوائل علي مجموع المتقدمين في القطر كله. فقد التحق في أكتوبر 1921م بمدرسة الحقوق السلطانية العليا في جامعة فؤاد الأول. وكانت وقتئذي لا تقبل سوي المتفوقين. وتدقق في اختيارهم. وقد رافقه فيها أقران وزملاء مثل: توفيق الحكيم. وحلمي بهجت بدوي. والدكتور عبد الحكيم الرفاعي؛ وقد حصل منها علي درجة "الليسانس" في الحقوق عام 1925. وجاء ترتيبه الرابع عشر . قضي يحيي حقي فترة التمرين بمكتب نيابة "الخليفة". وبهذه الوظيفة بدأ حياته العملية. وما لبث أن ترك بعد مدة وجيزة هذه الوظيفة ليعمل بعدها بالمحاماة ولما تحقق له الفشل سافر إلي الإسكندرية ليعمل في أول الأمر عند زكي عريبي المحامي المشهور وقتذاك. بمرتب شهري قدره ستة جنيهات. لم يقبض منها شيئًا ثم انتقل إلي مكتب محام مصري بمرتب قدره ثمانية جنيهات شهريًا. وسرعان ما هجر الإسكندرية إلي مديرية البحيرة ليعمل فيها بمرتب شهري قدره اثنا عشر جنيهًا. وقد سمح له هذا العمل بالتنقل بين مراكز مدينة البحيرة. ولم يلبث في عمله بالمحاماة أكثر من ثمانية أشهر؛ حتي وجد له أهله وظيفة معاون إدارة في منفلوط بالصعيد الأوسط؛ وبعد وفاة والده عام 1926. فقبلها وتسلم عمله بها في 1 يناير 1927. عاش يحيي حقي في الصعيد. عامين. حتي قرأ إعلانا من وزارة الخارجية عن مسابقة لأمناء المحفوظات في "القنصليات". و"المفوضيات"؛ فتقدم إلي تلك المسابقة التي نجح فيها وكان ترتيبه الأخير. فعين أمينا لمحفوظات القنصلية المصرية في جدة عام 1929 ثم نقل منها إلي إستنبول عام 1930م. حيث عمل في القنصلية المصرية هناك. حتي عام 1934؛ بعدها نقل إلي القنصلية المصرية في روما. التي ظل بها حتي إعلان الحرب العالمية الثانية في سبتمبر عام 1939م؛ إذ عاد بعد ذلك إلي القاهرة في الشهر نفسه. ليعين سكرتيرًا ثالثًا في الإدارة الاقتصادية بوزارة الخارجية المصرية. وقد مكث بالوزارة عشر سنوات رقي خلالها حتي درجة سكرتير أول حيث شغل منصب مدير مكتب وزير الخارجية. وقد ظل يشغله حتي عام 1949م ؛ وتحول بعد ذلك إلي السلك السياسي إذ عمل سكرتيرًا أول للسفارة المصرية في باريس. ثم مستشارًا في سفارة مصر بأنقرة من عام 1952 وبقي بها عامين. فوزيرًا مفوضًا في ليبيا عام 1953. أُقِيلَ من العمل الدبلوماسي عام 1954 عندما تزوج "في 1953/9/22 م" من أجنبية وهي رسَّامة ومثَّالة فرنسية تدعي "جان ميري جيهو". وعاد إلي مصر ليستقر بها؛ فعين مديرًا عامًا لمصلحة التجارة الداخلية بوزارة التجارة؛ ثم أنشئت مصلحة الفنون سنة 1955 فكان أول وآخر مدير لها. إذ ألغيت سنة 1958. فنقل مستشارًا لدار الكتب. وبعد أقل من سنة واحدة أي عام 1959 قدم استقالته من العمل الحكومي. لكنه ما لبث أن عاد في أبريل عام 1962 رئيساً لتحرير مجلة المجلة المصرية التي ظل يتولي مسئوليتها حتي ديسمبر سنة 1970 تولي يحيي حقي رئاسة التحرير من مايو 1962 وحتي نهاية عام 1970. وهي أطول فترة يقضيها رئيس تحرير للمجلة في تاريخها.. لذا ارتبط اسم "المجلة" باسم يحيي حقي. حتي لقد كان شائعاً أن يقول الناس: "مجلة يحيي حقي" واستطاع خلال مدة رئاسته أن يحافظ علي شخصيتها كمنبر للمعرفة. والعقل وأن يفتح صفحاتها للأجيال الشابة من المبدعين. في القصة والشعر والنقد والفكر ليصنع نجوم جيل الستينيات في "شرفة المجلة" بشارع عبد الخالق ثروت. وظل يحيي حقي يقوم بهذا الدور حتي العام الأخير من رئاسته للتحرير. حيث فوض نائبه الدكتور شكري عياد لإدارة المجلة في خلال الشهور الأخيرة قبل أن يحتدم الخلاف بينه وبين المؤسسة الرسمية ويتركها في أكتوبر 1970 ليتولي رئاسة تحريرها الدكتور عبد القادر القط منذ نوفمبر 1970 حتي قرار أنور السادات بإغلاقها. وإغلاق المجلات التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب في أكتوبر 1971 وبعدها بقليل أعلن اعتزاله الكتابة والحياة الثقافية.