"لقد ألزمتني أمي رحمها الله أن أقدم أفلاما تحترم الناس وأنا ملتزم بوصيتها". جاءت هذه الجملة في حوار مع المخرج التونسي عبداللطيف بن عمار.. وأفلامه الخمسة التي صنعها تعتبر تأكيدا لهذا الالتزام وذلك منذ فيلمه الأول "حكاية بسيطة كهذه" 1970 وحتي فيلمه الأخير "النخيل الجريح" 2010 الذي عرضه مهرجان الاسكندرية ونال استحسانا كبيرا من قبل الجمهور الذي شاهده وشارك في الندوة التي اقيمت بعد العرض والتي امتدت لأكثر من ساعة ونصف الساعة. الفيلم يعود إلي التاريخ.. وإلي معركة الجلاء عن مدينة بنزرت الساحلية التي دارت بين قوات الاستعمار الفرنسي وبين الشعب التونسي الأعزل معركة لم تستغرق أكثر من يومين ونصف "19 22 يولية 1961" وسقط فيها حسب الاحصائيات ثمانية آلاف قتيل ومئات من أشجار النخيل التي طالها الرصاص واخترق جذوعها ولم تمت ومازالت تحمل جراحها للآن كشاهد علي ما جري. أما الشهداء فقد تم دفنهم في مقابر جماعية وبعد سنوات أقامت السلطة التونسية شواهد فارغة تمتد علي مساحة كبيرة لا تضم رفاتهم وانما ترمز فقط إلي استشهادهم ولم تجل فرنسا عن بنزرت إلا يوم 15 اكتوبر من السنة ذاتها.. وفي هذا اليوم يقام كرنفال فارغ تشهده مدينة بنزرت التي أصبحت خالية وفقدت الكثير من معالمها كما يؤكد صانع الفيلم بن عمار وبطلته الممثلة الموهوبة ليلي واز. المخرج روائيا وتوثيقيا السيناريو الذي كتبه المخرج يقدم ابنة شهيد من شهداء هذه المجزرة الفرنسية في رحلة بحث عن ظروف استشهاد والدها والوصول إلي حقيقة ما جري خاصة ان الحدث جري التعتيم عليه وضاعت الحقيقة المروعة التي قضت علي ثمانية آلاف رجل. يقودها البحث إلي مثقف من المدينة ألف كتاب عن المجزرة والمفترض انه يعرف التفاصيل لأنه شارك فيها.. والنتيجة ان الرجل المثقف يعمل لحساب السلطة وقام من ثم بتزييف الحقيقة وأنكر انه كان يعرف أباها وبأنه كان ملازما له حين وقعت المذبحة ولكنه تخلي عنه وتواري خوفا ولم يحاول انقاذه بينما ينزف أمام بابه. حاول المخرج أن يجمع في السيناريو بين الرصد الواقعي للمدينة بعد 30 سنة من المجزرة والقصة العاطفية التي نبتت أثناء البحث وان لم تكتمل باكتماله. يؤكد المخرج انه اشتغل كثيرا علي مادة الفيلم الموضوعية رغم عدم وجود مادة كافية عن هذا الحدث المروع في تاريخ النضال ضد الاستعمار الفرنسي ويزداد الأمر صعوبة لو عرفنا ان الأرشيف السمعي البصري التونسي موجود في فرنسا والحصول علي مادة من هذا الأرشيف ليس سهلا. كيف يكون الفنان سياسيا ومحايدا؟ في إطار واقعنا العربي الذي تستبديه قوي متحكمة تخشي علي صورتها لا يستطيع صانع الفيلم أن يكون حرا بالمعني المطلق أو أن يلقي الضوء علي أمور تحرص السلطة علي اخفائها.. وبعد ثورة تونس خرج فيلم بن عمار إلي النور وعرض في ساحة مكشوفة هناك وكانت ردود الأفعال ايجابية جدا لأنه في الحقيقة فيلم مؤثر يستحضر مذبحة تم تجاهلها وصفحة نضال مشرقة تم التعتيم عليها. ردا علي هذا السؤال يقول بن عمارة ان بعض الأفلام التي صنعها لم تعرض إلا في مناسبات مثل "سجنان" الذي عرض في مهرجان قرطاج وحصل علي جائزة التأنيث الفضي عام 1974 ولكنه عرض بعد الثورة في التليفزيون وفيلم "عزيزة" وعرض أيضا في مهرجان قرطاج وحصل علي الجائزة الكبري وفيلم "نغم الناعورة" وكان علي هجرة الشباب وهي إحدي الهموم الثقيلة التي تعاني منها دول شمال افريقيا ومع ذلك فالمخرج يصنع الأفلام في تونس بعيدا عن الضغط الذي يفرضه الشباك لأن تونس ليس بها سوي خمس دور عرض فقط والمتنفس أمام الانتاج التونسي هو المهرجانات خارج تونس ولذا فمن المهم أن تمثل الدولة بأفلام محترمة.. فالفيلم الحالي كذلك يعتبر منتجا ثقافيا وليس مجرد سلعة تجارية وأنا أفضل عمل فيلم بتمويل عربي. النخيل الجريح يبعث الحياة في جزء من التاريخ لم تقترب منه السينما التونسية وينكش في الذاكرة الحديثة من خلال امرأة تحمل هماً شخصياً مؤرقا ولكنه بالبحث يصبح هماً عاماً وقضية تستحق تسليط الضوء عليها.. انه زيارة لمدينة دخلت التاريخ واشتبكت مع الاستعمار الفرنسي وأصرت علي إخلاء أرضها من آخر جندي يستعمرها وصار من حقها ومن واجب السينمائيين أن يضعوها علي خارطة الذاكرة في موقع تستحقه. أعتقد ان الفيلم جدير بإحدي جوائز المهرجان وتستحق بطلته ليي واز عن دورها فيه جائزة أفضل ممثلة.