لأننا- في المجالين الحكومي والأهلي- بلا قيادة ثقافية حقيقية "حتي برامج الأحزاب تخلو- أو تكاد- من البعد الثقافي" فإن الارتباك يسم الأنشطة التي تحاول بها القيادات الثقافية الحالية أن تواكب الأحداث التي تعيشها بلادنا. من يقرأ ذكريات يحيي حقي عن الأعوام الأولي لثورة يوليو "كان مديراً لمصلحة الفنون" يلحظ اهتمام القيادة السياسية بتقديم معطيات ثقافية حقيقية تصل إلي المواطن في أبعد وأصغر قرية. وتحسن تقديم الثقافة المصرية التي تحمل موروثاً وتراثاً هائلين إلي ثقافة العالم.. يكفي أن أشير إلي فرقة الفنون الشعبية. التي كان أوبريت "ياليل يا عين"- الذي صنعته المصادفة- نواة لها. ولا يختلف اثنان في أن ثروت عكاشة قد وضع الأساس الذي قامت عليه الثقافة المصرية في الستينيات. وإن أضير البناء- فيما بعد- بفعل فاعل.. حرصت استراتيجية وزارة الثقافة- آنذاك- أن تجمع بين الخدمات والانتاج.. ثمة الكثير من الوسائل التي تتيح المعرفة من خلال سلاسل ودوريات. تخاطب المستويات المختلفة. ومنها المكتبة الثقافية أم قرشين التي قرأنا فيها للعقاد وزكي نجيب محمود وحقي والشوباشي وغيرهم من ذوي القامات العالية. وتراث الانسانية التي قدمت تلخيصات ذكية لأهم كنوز التراث العالمي. ودورية أعلام العرب وتحولها إلي مصادر لبحوث الأكاديميين. فضلا عن عامة القراء. وأيضا مجلات المجلة التي اهتمت بالبعد الأدبي. والفكر المعاصر. والفنون الشعبية. والمسرح. ومطبوعات أخري كثيرة. وفق استراتيجة تصل بالثقافة- بأسعار رمزية وعبر باعة الصحف- إلي أبعد وأصغر قرية. أما المبدعون. فقد وجدوا السبل للنشر في اصدارات مؤسسة التأليف والترجمة والنشر التابعة للوزارة. وأسهمت هيئة الثقافة الجماهيرية بدور مهم في تحريك العمل الثقافي. علي المستويين الجمعي والفردي. بما جعل من الثقافة مشروعاً قومياً لا يقل طموحاً عن المشروعات الأخري للفترة نفسها. ليس علي مستوي المواهب الطالعة وحدها. وانما في ندوات رابطة الأدب الحديث "أيام القط ومندور وعبدالصبور" ونادي القصة. وجمعية الأدباء. والجمعية الأدبية المصرية. ومسرحيات الحكيم. وروايات محفوظ. وقصص الشاروني وإدريس والخراط وحافظ رجب وعبدالحكيم قاسم. ومسرحيات نعمان ووهبة وإدريس وألفريد ودياب ورومان وعلي سالم "قبل أن يختط طرقا مغايرة". وأفلام حسين كمال وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ. ولوحات جاذبية وأفلاطون وندا والنجدي والجزار والعدوي. ونحت عثمان وعبدالكريم وموسيقي خيرت وعلي إسماعيل. وعشرات تضيق المساحة عن أسمائهم. مسئولية القيادة في وضع الاستراتيجية. ووضع التكتيكات التي تعني بتكاملها. ولأننا الآن بلا قيادة ثقافية حقيقية. فإن الفعل المتاح الوحيد هو الاعتماد علي المجهودات الفردية للمبدعين والدارسين. ما صدر لهم من مؤلفات ترهص بالثورة. وتعرض لأحداثها.. لا استراتيجية ولا تكتيك.. البضاعة جاهزة في المحاولات الفردية. وتنعقد اللجان. ومجالس الإدارات. وتثور الاسئلة. وتجري المناقشات. والنتيجة- في الأغلب- ترشيح كتب للمناقشة. ألفها أصحابها بوازع من ضميرهم الوطني. وقدراتهم الابداعية والفكرية. فهي- الكتب- تعرض في فاترينات هيئاتنا الثقافية. باعتبارها انجاز هذه الهيئة أو تلك.. مأساة!