لأفيشات والمقدمات تقول إننا ازاء عمل جدير بالمشاهدة فعلاً. متحرراً من الإسفاف والفبركة والعنف التجاري وأيضا من الاستسهال والضحك علي تشوهات خلق الله. ذلك برغم وجود محمد رمضان ومحمد سعد علي رأس قائمة طاقم الممثلين وما قد يثيره اجتماع النجمين لأول مرة من ريبة وترقب! فتاريخ شريف عرفة الكاشف كمخرج "طيور الظلام" و"الناظر" و"الجزيرة" يوفر الحد الأدني من الطمأنينة لكل من المتفرج والناقد ويؤكد أن زمن الفرجة وأن طال لن يكون سدي حتي لو لم يحقق كل التوقعات. هناك أيضا اسم المؤلف عبدالرحيم كمال بتاريخه القصير الذي في حقل الدراما التليفزيونية "الخواجة عبدالقادر" و"شيخ العرب همام" و"ونوس" فهو كاتب مثقف وممتليء وعاشق للصعلكة الفكرية في دروب وزوايا التاريخ الاجتماعي المشبع بالخيال وبامكانيات التأويل والاسقاطات علي ما يموج به الحاضر. أقول بداية أن فيلم "الكنز" عمل مهم وغير تقليدي علي مستوي التفكيروالتنفيذ أيضا. يجتهد صناعه كفريق واحد متجانس جداً لو حكمنا علي التجربة ككل والرؤية التي تنتهي إليها عبر مجموعة من الحكايات وعشرات الشخصيات والوقائع وتباين الأزمنة التي تدور فيها الأحداث. فالفيلم يطرح ما يعرضه من أفكار عبر "جديلة" جيدة التضفير لثلاث حكايات رئيسية تدور في ثلاثة أزمنة متباعدة ومتباينة عاشتها مصر. وتشير إلي عدة قناعات منها أن "رجل الدين" بأرديته وهيئته المختلفة يقبع في قلب مسرة الشعب المصري كأحد عناصر صناعة الاستبداد وقمع الحريات. والقصص الثلاث المختارة تدور وقائعها في العصر الفرعوني أبان حكم "حتشبسوت" وفي زمن الاحتلال العثماني حيث شاعت أسطورة علي الزيبق البطل الشعبوي الذي يحمي بقوته ومهاراته الجمسانية وحسه الشعبي المنحاز للعامة قيم العدل ويتصدي للظلم ضد السلطة الباطشة للمماليك والبصاصين.. إلخ. ثم عصر ما قبل ثورة 1952م آخر سنوات حكم الملك فاروق حين كان رئيس القلم السياسي بجبروته يبسط سلطانه بقوة "كن فيكون" حتي في الأمور العاطفية. أسلوب سردي جذاب لو كان ذلك هو ما يقدمه "الكنز" فقط لجاء العمل تقريرياً جافاً فالحكايات لا تتحول إلي مصدر للإثارة والترفيه الممتع وجذاباً وموضوعياً إلا عندما تتكيء علي أسلوب فني جذاب قادر علي اثارة الفضول وتأجيج درجة التفاعل بين الشاشة والصالة وشحذ عناصر الدراما بصراعات بدروسه ومن خلال حبكة تجمع الخيوط العديدة داخل نسيج واحد تقد منه الأحداث والمواقف ومن ثم تتولد الأفكار. يربط هذه الحكايات "شخص" بارز رئيسي يشد الواحدة إلي الأخري أثناء متابعته لوقائعها وهذا الشخص يطالعنا في أول مشاهد الفيلم إنه "حسن الكتاتني" "أحمد حاتم" شاب يعيش في أوروبا من سنوات قضاها في دراسة علم "المصريات" يعود إلي مسقط رأسه في مدينة الأقصر بعد وفاة والده "محمد سعد" وعمه "هيثم أحمد زكي" لكونه الوريث الوحيد لأسرة ثرية من الصعيد تمتلك منزلاً أشبه بالقصر أنيقاً وجميلاً معمارياً يتكالب علي شرائه زمرة من أهل المنطقة أقل شاناً بكثير من أسرة "الكتاتبي" كما تدل هيئتهم وسلوكهم.. أحداث هذه القصة تبدأ مع عام 1975م حين يصل "حسن" إلي بلدته وفي نيته بيع "البيت" و العودة ثانية إلي أوروبا لولا "الوصية" المصورة وما تنطوي عليه. يبيع ماذا؟! إن فكرة البيع لآخر ما تبقي من تراث الأسرة العتيدة تعني بتر الجذور وإقصاء مضمون الإنتماء مع التمسك بأهداب "أوروبا" حيث كان "حسن" يتلقي العلم من تاريخ بلاده ولكن هذه الفكرة تتوقف بفعل شريط الفيديو "الوصية" التي تركه الأب "بشر الكتاتبي" قبل وفاته إلي جانب مخطوطات ومذكرات شخصية وبرديات عن تاريخ "حتشبسوت" "الملكة الفرعونية وهذه الوصية ظل يحرسها الخادم النوبي العجوز الذي يصر علي إثناء "حسن" عن فكرة البيع والرحيل والبقاء.. وهنا تتوالي الحكايات وتبدأ "الحيرة" وطرح الأسئلة وحتمية معرفة "الوصية" حتي آخرها. فالأب الذي يلعب دوره "محمد سعد" كان يشغل وظيفة سيادية في عصر الملك فارق إبان فترة الاربعيينات إذ كان رئيساً للقلم السياسي. نفس الوظيفة التي شغلها "محمود المليجي" في فيلم "غروب وشروق" ويتسم بنفس الصلابة والنزعة الاستبدادية ولكن ليس بنفس صلابة القلب أو قسوته فالرجل المهم وقع في غرام نعمت رزق "أمينة خليل" مطربة "الحب المستحيل" في الكباريه وصاحبة الصوت الآسر.. وهذه الشخصية التي تذكر بالمطربة "اسمهان" يجدها "حسن" عند عودته وقد أصابها الوهن وضاع صوتها الجميل وكسا الشيب رأسها وان احتفظت ببقايا جمال وقلب حرير واتخيل أن المخرج والمؤلف سيعودان إليها في الجزء الثاني من هذا العمل. الحب.. الحب.. الحب في الحكايات الثلاثة يتزعم الحب مملكة القلوب لدي الرجال والنساء.. قلب الباشا رئيس البوليسي السياسي "بشر الكتاتني" وقلب البطل الشعبي علي الزيبق الذي ذاب عشقاً في "زينب الكلبي" "روبي" ابنة المقدم "صلاح الكلبي" كلب السلطة وقاتل "حسن رأس الغول"والد علي الزيبق "محمد رمضان" يلعب الدورين باقناع واقتدار. والملكة الفرعونية حتشبسوت رغم قوتها وعلمها لن تفلت من سطوة الحب عندما التقت والمهندس العبقري "سمنوت" "هاني صالح" الذي بني لها أجمل معابد الدير البحري ولكنه كان من العامة وغرامه بالفنون والمعرفة كان شفيعاً لاقترابها منه. وتمثل السلطة في هذه الحكايات الثلاثة ونزعة الاستبداد السياسي إبان السنوات الأخيرة من حكم فاروق وأيضا إبان حقبة الاستعمار العثماني وإبان حكم الاسرة الثامنة عشرة في مصر القديمة عاملاً مشتركاً آخر ناهيك عن الفساد وقسوة الحكم التي لم ينجو منها حتي عمه "مصطفي" شقيق رئيس القلم السياسي الذي تعرض للحبس والتعذيب برغم شفاعة أو وساطة مساعده "عبدالعزيز النشار" "أحمد رزق". فواصل فنية. ويلضم الحكايات الثلاثة أكثر من وسيلة موضوعية وفنية فإلي جانب الأفكار المشتركة والمواضيع التي تنطوي علي محتوي قريب الشبه وان اختلفت العصور يلضمها الفواصل الفنية التي تعكس رغم اختلافها نفس المعاني تقريباً فهناك الأغنية العاطفية والنمر الفكاهية علي مسرح المنوعات التي يقدمها "أحمد أمين" في عصر فاروق والاستعراضات الشعبية في أسطورة علي الزيبق في العصر العثماني تلك التي تجسد التآلف الشعبي "البطل" وأعوانه في مواجهة الفساد والظلم الذي يمثله نموذج صلاح الكلبي "اسمه في الاسطورة الشعبية سنقر الكلبي" "يؤدي دوره عباس أبوالحسن". وهناك مظاهر السوق وتكتل الكهنة مع الكاهن الاعظم "محيي إسماعيل" وتحول الملكة كوسيلة للتآلف بين العرش وعامة الناس ثم هناك الشخصية التي تظهر في طبعات مختلفة في الحكايات الثلاثة ويؤديها ممثل واحد قدير هو "عبدالعزيز مخيون" الذي يلعب دور الحكيم الفرعوني "إني" والشيخ "علي الله" والسجين في زنزانة مع جماعة من المحبوسين السياسيين. القواسم المشتركة فكرياً وموضوعياً ألهمت صناع الفيلم بالضرورة لخلق المعادل البصري الموضوعي من خلال الصورة البديعة لمدير التصوير "أيمن أبوالمكارم" وموسيقي "هشام نزيه" المعبرة عن ملامح وإيحاءات والحان الزمن الذي يضم الأحداث وبيئة الكباريه واختيار صوت "نسمة محجوب" بأداء "أمينة خليل" ثم المنشد الديني "إيهاب يونس" في الموالد الشعبية زمن العثمانيين. "الكنز" تجربة مركبة وصعبة ولكنها غنية بعناصر الترفيه والامتاع الفني فلا مكان للملل أثناء متابعة أحداثها وأداء الممثلين والفرجة علي أداء "محمد سعد" الذي يولد من جديد أو بالأحري يبدأ مرحلة جد مختلفة بعد مشواره الذي بدأ مع "الناظر" وامتد إلي "اللمبي" و"كركر" و"اطاطا" و"بوحة".. إلخ. ومحمد رمضان محمد رمضان نراه يبدأ هنا فصلاً يضيف إلي سعيه الايجابي لتغيير جلده والانتقال بتأثيره إلي إثراء و عي المتفرج بدلاً من تزييفه ببطولات وهمية ببطولة "علي الزيبق" التي جسدها بنجاح واضافت إلي العمل أبعاداً تحسب أيضا للمخرج الجريء الذي شد بطلا العمل بقوة إلي مستوي آخر من الأداء التمثيلي وفي نوع الشخصيات التي اعتادا أن يجسداها. ولكن أين الكنز؟! لم يتراءي "الكنز" ولم نتعرف علي ابعاده في الجزء الأول الذي يمزج الخيال بالحقائق والأسطورة بالتاريخ وعلينا أن ننتظر الجزء الثاني الذي وعدنا به صناع هذه التجربة الممتازة والمختلفة رغم ما تحتويه من بعض هنات كان يمكن الاستعناء عنها اذكر علي سبيل المثال شخصية "أنور السادات" والممثل الذي لعبها دون أدني اقتراب من روحها علماً بأن المخرج استطاع أن يبرز ملامح كثير من الممثلين بما يتسق تماماً مع مضمون الشخصية التي يؤديها كل منهم وأذكر "روبي" في دور "زينب الكلبي" الفتاة المصرية ذات العيون الواسعة والنظرة الآسرة والدهاء الانثوي وشخصية "فاطمة"" أم "علي الزيبق" "سوسن بدر" بالايحاءات الإنثوية التي تكشف عن جوهر امرأة لعوب ومن دون أن يقلل ذلك من دورها كأم. والمؤلف كعادته يروض الأسطورة والتاريخ لكي يناسب الرؤية التي يريد ايصالها للمتفرج من دون صخب لكي نتأمل بعض ما تنطوي عليه التجارب الإنسانية من معان مازلنا نجد فيها انعكاساً لما نحن فيه. وشريف عرفة كما عودناً. مخرج صاحب موقف يدقق في اختياراته وبقدر إيمانه بدور الفيلم كعمل ترفيهي جماهيري إلا أنه لا يستخف بعقولنا ولا يسيء إلي ذائقتنا العامة ويحسب له هنا الجمع بين أكثر من نجوم الترفيه الشعبوي نجاحاً ومن دون أن يخذل عشاقهم بل لعله لفت انظارهم إلي مستويات من الأداء لم تكن في الحسبان.