بينما أنا عائد من جلسة قضاء عرفي. عقدت بإحدي القري المجاورة لقريتنا حيث محل سكني وكان ذلك في وقت متأخر نسبياً فوجئنا أنا وصديقي صاحب السيارة المتواضعة التي كنا نستقلها بالطريق مقطوع بأحجار كبيرة واضح انها وضعت عمداً لإيقاف السيارات حتي لو كانت "شاحنة" وقبل ان نتمكن من استيعاب الموقف أو التفكير في كيفية التصرف إزائه أحاط بالسيارة عدد من المسلجين ببنادق آلية. ربما أربعة أو خمسة. فأسقط في أيدينا ولم ندر ماذا نفعل. أمرنا أحدهم بالنزول من السيارة وتسليم ما معنا من أموال وموبايلات وسلاح إن وجد. وكأن مسألة حمل سلاح قد باتت عادية كما تحمل الأموال والموبايلات والأشياء الأخري المتعارف عليها. فنظر إليّ صديقي وكأنه يستخبرني فقلت بصوت مسموع ليصل إلي آذانهم جميعاً "مفيش مشكلة. فالأموال التي معنا قليلة والموبايلات رخيصة وليس معنا سلاح" وأضفت "يعني نقبهم علي شونة" سألني : والعربية؟! يقصد السيارة فأجبت بنفس النبرة تقريباً إرضاء لذاتي أولاً ولافهماهم إني غير خائف ثانياً والتلميح إلي أني قد أكون قادراً علي استعادة "الغلة" كما يسمونها بطريقة أو أخري: يخدوها وهنجبها ثاني. هممنا فعلاً بالنزول وإذا صوت واثق يأتينا من أحد جانبي الطريق المحاط بترعة واسعة من جانب وحدائق كثيفة من جانب آخر وليس فيه لمبة كهرباء واحدة. رغم كثرة أعمدة الإنارة علي أحد جانبيه: خلاص يا رجالة سماح اتفضل يا أستاذ "...." إحنا عارفين الأصول برده. مش زي ما بتكتبوا في الجرايد إننا وحوش وكلاب مسعورة. تراجع "الرجالة" وشرعوا يفتحون لنا الطريق ومع أن هذا في حد ذاته كان يمكن ان يكون خاتمة سعيدة جداً للكوميديا السوداء التي عايشناها خلال هذه الدقائق وجدتني. ربما إرضاء لذاتي أيضاً. أعلق: "لما انتو بتعرفوا الأصول بتعلموا كدا ليه في خلق الله؟ وأضفت: إذا كنتم محتاجين فلوس فالفلوس بتيجي بألف طريقة أخري وبعدين افرضوا إننا رفضنا. هتعملوا ايه فينا. هتقتلونا. يعني هترتكبوا جريمة أكبر. هو ده كلام يا معلمين" بفتح الميم طبعاً!! قال أحدهم: اتفضل امشي وبلاش فلسفة. بدل ما نقلعكم هدومكم ونطلع .. وقبل ان يتم جملته جاءنا مرة أخري صوت "الكبير" بس يا بني احترم نفسك الأستاذ "...." استاذي وله فضل عليّ. فتذكرت انه كان قد ذكر اسمي في المرة الأولي ولكني لم ألتفت إلي ذلك فتشجعت وسألته "يعني عارفني يا كبير؟!" بدأ يقترب من السيارة وهو يقول: "أيوه عارف حضرتك" أي والله حضرتك. وكان قد وصل ساعتها إلي حد يسمح لي بتبين ملامحه ولكني رغم تفرسي فيه لم أعرفه. شاب في أوائل الثلاثينيات لونه قمحي كمعظم المصريين. جسده نحيل إلي درجة تجعلك تتعجب كيف يأتمر بأمره هؤلاء "البودي جاردات" لا يميزه سوي صدره الظاهر من فتحة الجلباب البلدي الذي يرتديه ومنكباه العريضان نسبياً قال: واضح ان حضرتك مش فاكرني قلت: الحقيقة إني مش فاكرك بادرني: مش مهم دلوقتي بس أنا واحد من تلامذتك حضرتك كنت بتدرس لنا إنجليزي في إعدادي في المجموعات المدرسية لوجه الله تعالي!! علقت: أنت كمان متعلم؟! قال: للأسف لم أكمل تعليمي وحضرتك للمرة الرابعة شايف النتيجة قلت: وايه يا بني اللي وصلك للنتيجة السودا دي؟ قال وهو يفتح باب السيارة الذي اتكيء عليه: دي حكاية طويلة جداً ولو فاضي احكيهالك وقد كان واضحاً انه سيحكي بدليل فتح باب السيارة نزلت من السيارة وسط اعتراضات هامسة من صديقي الذي لم ينطق بحرف واحد حتي الآن وأنا أقول اياه "هيحكي يعني هنسمع" ولم يعلق صديقي سوي بابتسامة تدل علي انه فهم مقصودي. فنحن مجبوران علي أية حال. مد يده ليسلم علي فمددت يدي ولكنه لم يكتف بذلك بل احتضنني حضناً دافئاً وكأني أحد أقربائه الأعزاء غاب عنه قرن كامل!! أمسك يدي بيده واصطحبني ناحية الحدائق الكثيفة المظلمة وهو يوجه أوامره ل "بودي جادرات" خلاص براءة الليلة دي .. فركش. تبعنا صديقي الذي يبدو انه سلم أمره لله تعالي ودخلنا "الجنينية" لحديقة وبعدها بدقائق لطمتنا فيها الأغصان مئات المرات وصلنا إلي "عشة" حوالي 3*3 متر أساسها بالطوب الأحمر وبقية جدرانها وسقفها بجذوع الشجر والحطب. وكنا عند اقترابنا منها قد سمعنا صوت سحب أجزاء الأسلحة ولكنه نطق بكلمة لم اتبينها أعتقد انها كلمة السر أو ما شابه. حول "العشة" وداخلها وجدنا عدد آخر من المسلحين ربما 6 أو 7 كلهم تنحي جانباً حتي لم نعد نراهم فطلب منا الجلوس علي بعض "الشلت" فجلسنا أمر: شاي يا بني!! في انتظار الشاي بدأ يحكي: في "الدبلوم" ربما مدرسة ثانوية فنية أو صناعية أو زراعية لم استفسر أقنعني بعض أصدقاء السوء ان نقوم بعمل سطو مسلح علي أحد المحلات التجارية للحصول علي ما به من أموال وبضائع نستفيد منها في حل مشاكلنا الكثيرة ووجدتها فرصة جيدة لاستخدام نصيبي في "الغلة" المسروقات في الصرف علي أخي الأصغر وأمي المريضة وشقيقاتي الخمسة وكلهن أصغر مني بعد ما توفي والدي الذي كان يعمل "أجري" باليومية ولم يترك لنا شيئاً بالإضافة لتوفير ثمن الكيف الذي كنت قد أدمنته من سنوات أثناء عملي كصبي قهوجي إلي جانب المدرسة!! كانت هذه هي المرة الأولي وكان في نيتي أنها ستكون الأخيرة إن شاء الله "مرة وهتعدي" وفعلاً أتممنا العملية بنجاح وان كنا قد اضطررنا لإصابة الخفير بإصابات خطيرة بسبب اصراره رحمة الله تعالي عليه الأمساك بنا. سألت: قتلتموه؟ أجاب: لا لقد توفي بعدها بحوالي سبع سنوات ولكنه شهد ضدنا واحداً واحداً وميزنا في طابور العرض. حكمت علينا المحكمة بأحكام مختلفة كان نصيبي منها 15 عشر سنة مرة واحدة. في السجن وجدت عالماً آخر غير إنساني بالمرة. فإما ان تستسلم لكل شيء تؤمر به سواء من قبل إدارة السجن أو عتاة المجرمين بما في ذلك التفريط في شرفك لا مؤاخذة إذا أعجبت أحد عتاة المجرمين في عنبر "الوارد" واختارك "حتة" وإما.. استوقفته: "حتة؟" أجاب : نعم يعني "لا مؤاخذة" يتعامل معك كما يتعامل الرجل مع زوجته!! اشمأززت وأشرت إليه أن اكمل.. أضاف: صاحب الدم الحر يرفض ذلك طبعاً ويدافع عن نفسه إما قاتل وإما مقتول وهذا ما حدث معي بالضبط قتلت أحد هؤلاء المجرمين العتاة وبدلاً من اعتبار ذلك دفاع عن النفس حكم علي بالمؤبد وأصبحت مطالب بالبقاء في السجن حوالي 40 سنة أي اني سأموت فيه أو أخرج "كهنة".. أضف إلي ذلك ان هذا الموقف أو غيره وربما يتكرر معك في كل سجن تنتقل اليه وان كان سمعتك تسبقك وكل واحد "وشطارته". في السجن الذي تدخله وانت لا تعرف شيئاً عن عالم الإجرام. تتعلم كل شيء وكون شبكات تنفعك داخل السجن وخارجه إن خرجت حياً.. ذكر "كلبشات" وهذا اسمه الكودي حكايات يشيب لها الولدان تؤكد ان السجون غير الآدمية في بر المحروسة هي "المفرخة الكبري" للمجرمين ولكن تضيق المساحة عن ذكرها. مع قيام الثورة وخروجنا من السجن لم .. استوقفته : كيف خرجتم؟ هل صحيح أن أهليكم أو أناس من الخارج ساعدوكم علي ذلك أم ان الداخلية هي التي فتحت لكم السجون؟! قال: الاثنان. بعض السجون حدث فيها والبعض الآخر فتحوها: سألت: في أي سجن كنت وكيف خرجت أنت؟ قال ضاحكاً: تحقيق صحفي؟! اسف أنا لا أعطي معلومات لأي أحد حتي لو كان حضرتك ولكن الذي حدث في السجن اللي كنت فيه اننا أحدثنا معركة وهجمنا علي الحرس وخرجنا بالعافية. سألت: وكيف عرفت ان بعض السجون خرجت بعد ما فتحتها الداخلية للمساجين؟ أجاب: زملائي وأصدقائي في السجون الأخري هم الذين أخبروني بذلك. قلت: أكمل قال: طبعاً حضرتك عارف ان "حد" في ظروفي لا يمكن يجد عملاً شريفاً في أي مكان بالإضافة إلي ان الداخلية لن ترحمك. اليوم أو غداً ولذلك قررنا المشي في الطريق لآخره فنحن موتي أو مساجين في كل حال. سألته: لماذا لا تسلم نفسك؟ قهقه: أسلم نفسي للظلم والموت ولماذا لا استمر فيما أنا فيه طالما آخرتها موت أو السجن لحد الموت؟ موت في موت أو السجن لحد الموت يبقي آخد حقي بدراعي. قلت: لكن ما تفعله ليس حقك ولا حق أهلك. قال: لا حقي وحق اخواتي وأمي طالما ان الدولة والمجتمع لا يعرفان الرحمة. واستطرد: في الأفلام الأجنبية المساجين بيخرجوا بعفو بعد فترة ولما يخرجوا فيه جهات بتتبناهم وتساعدهم لكن عندنا كله ضدك حتي أهلك وأصدقاءك بالإضافة للناس والحكومة وكأن من أخطأ مرة ولو مضطر مكتوب عليه انه سيبقي طوال عمره مطارد وطالما الجميع عايز كده هنبقي كدا!! أضاف: انت مش صحفي كبير وبتطلع في التليفزيون شوف لنا حل. خليهم يخفضوا مدة العقوبة أو يعفو عنا ويضمنو لنا شغل بعد ما نخرج ويصرفوا علي أهلينا وإحنا في السجن وبعد ما نخرج لحد ما نلاقي عمل شريف بواسطة الحكومة لأن الناس مش ممكن تقبلنا عمال عندها. اضمن لنا ذلك وأنا أسلم نفسي من بكره. هو أنت ثاني مرة يقول فيها أنت بدل حضرتك. ربما بسبب انفعاله فاكر إننا عايزين نفضل مجرمين يا أستاذ إحنا شايلين أكفاننا علي ايدينا ليل ونهار. بدأ صوته يتغير واختنق بسبب نوبة بكاء أبي ان ينفس عنها. كدت أتعاطف معه ولكني تماسكت وقلت: انت تنظر للمسألة من وجهة نظرك فقط. ماذا عن حقوق الآخرين الذين تنهبونهم وتسرقونهم وربما تقتلونهم؟ أجاب وقد تمالك نفسه بعض الشيء: يأخذوا حقوقهم منا بس مش بالبشاعة دي. يعني اللي يخطأ مرة يفضل طول عمره مجرم. يا أستاذ دا ربنا بيقبل التوبة. مش فيه رجل قتل 99 وأكملهم المائة وتاب عليه ربنا انتم مش بترحموا ليه. سألته: ولكن هناك نسبة من المجرمين يحبون حياة الإجرام ويفتخرون بها بغض النظر عن حاجتهم المادية أو المعنوية فاهم السؤال؟ أجاب: ايوه يا أستاذ "...." طبعاً فاهم وأقول لك إن دول نسبتهم قليلة جداً طبيعتهم كدا لكن الأغلبية علي الأقل 90% زيي نفسهم يتوبوا بس الناس والحكومة تدلهم الفرصة ليه بتوع الثورة اللي أخرجونا من السجون ونجونا من العذاب ميعملوش "مبادرة" أي والله مبادرة لتوبة أمثالي من الخارجين علي القانون بما في ذلك المسجلين خطر واللي عليهم أحكام كبيرة. فوجئت بكلمة "مبادرة" هذه ثم تذكرت ان شاشات التليفزيون والصحافة بكل أنواعها تستخدم هذه الكلمة ليل نهار علي الفاضي والمليان فزالت المفاجأة وواصلت الحوار: واحد زيك محكوم عليه بأربعين سنة ماذا تفعل له الحكومة أو الناس. يقولون لك برافوا أنت بطل وإحنا عفونا عنك؟ أجاب بعد ما أشعل سيجارة وطلب لنا شاياً آخر: انا مقلتش كده. اللي غلط يأخد جزاءه بس برحمة يخلوا ال 40 سنة عشرين أو عشرة ويراقبوني الباقي أو حتي لآخر العمر لو عملت حاجة تاني يشيلوني القديم والجديد أو يشغلونا شغلانة مفيدة وإحنا داخل السجن يقصد الحكومة نصرف منها ونبعت لأهالينا يصرفوا علشان متبقاش فكرة الهرب والانتقام مسيطرة علينا. أي حل. خلاص المثقفين اللي زي حضرتك دماغتهم وقفت؟ أجبت مبتسماً ابتسامة ملؤها الحزن والكآبة: باين يا "كلبشات" دماغتنا وقفت فعلاً. ضحك قائلاً: اسف دوشتك ويمكن قليت أدبي. معلش. بس وحياة النبي تشوفولنا حل وأنا متأكد ان 90% من المطاريد هيبقوا مواطنين صالحين زي الفل واللي يرفض المبادرة يبقي ذنبه علي جنبه. قلت: الله المستعان قال: بالمناسبة لما تمشي حضرتك بالليل في أي مكان بالمنطقة ويقابلك حد قول له: "...." كلمة سر فيما بين عصابات المنطقة علي عهدة كلبشات. الآن أتساءل بمنتهي الموضوعية: أما من مبادرة لقبول توبة من يريد ان يتوب من الخارجين علي القانون باعتبار التوبة مصلحة لهم وللمجتمع كله؟ أليس في وسع رجال الدين وخبراء الاجتماع وعلم النفس وعلماء القانون ان يبتكروا لنا مثل هذه المبادرة التي قد توفر علينا مجهودات وأموال ومخاطر كثيرة إذا نحن قصرنا المواجهة مع هؤلاء علي أجهزة الأمن وحدها؟ ثم ماذا عن هذه "المفارخ" أقصد السجون التي تخرج لنا كل هذا الكم من خبراء الإجرام كل حين حتي قدرهم وزير العدل بحوالي نصف مليون مجرم؟! لماذا لا توضع هذه السجون تحت إشراف وزارة العدل وأين منظمات المجتمع المدني التي يفترض انها تهتم بإعادة تأهيل مثل هؤلاء الخارجين علي القانون وإعادة إدماجهم في المجتمع كمواطنين صالحين؟ هذه دعوة من "المساء" لكل من لديه فكرة للتعامل مع ظاهرة الانفلات الأمني من خلال الخارجين علي القانون أنفسهم والاسعانة بالمجتمع ذاته حيث إننا بكل تأكيد في حاجة ماسة إلي مثل هذه المبادرة مبادرة "التوبة والإصلاح" علي حد تعبير كلبشات فهل هذا ممكن أم أن هذا مستحيل في دولة اعتادت التعامل مع كافة مشكلاتها عن طريق أجهزة الأمن؟ ها أنا ذا يا سيد "كلبشات" يا تلميذي الذي ضل الطريق أفي بعهدي لك. فأنت مجرم نعم ولكنك لم تزل إنساناً علي أية حال. مستعد لدفع ثمن جرائمك ولكن برحمة كما قلت. ليس خدمة لك وحدك ولكن لكل من ضل الطريق لسبب أو آخر من أمثالك ومن أجلنا نحن الذين نكتوي بنار محاصرتكم في هذا الركن الجهنمي. وفي النهاية تبقي كلمة: يا سادة العلاج الأمني وحده لن يفيد. لابد من علاج شامل يشترك فيه أجهزة الأمن والمجتمع بكل تصنيفاته ومن يريد التوبة من الخارجين علي القانون فأهل مكة أدري بشعابها. وقد قدمت لكم نموذجاً حياً عساكم تستفيدون من اقتراحاته وشكراً سيد "كلبشات" وبالمناسبة لقد نسيت "كلمة السر" إياها ربما تذكرني بها حينما ألقاك في "ركاب التائبين" إن شاء الله.