عندما ارتفعت قيمة الدولار قفزت الأسعار قفزة هائلة.. وفي المقدمة كانت أسعار السلع والخدمات الحكومية.. البنزين والسولار وفواتير الغاز والكهرباء والمياه والتوصيلات والعدادات والتمغات والرسوم.. كان المبرر جاهزاً يقوله موظف الحكومة كما يقوله محصل الفواتير وسائق الميكروباص وبائعة الخضر والفاكهة.. فتعويم الجنيه لم يترك شيئاً في البلد علي حاله.. كل السلع والخدمات لابد أن تتأثر بارتفاع الدولار حتي لو لم يكن لها علاقة أصلاً بالدولار. الآن ينخفض الدولار تدريجياً منذ أسبوعين.. ومع ذلك لم تهبط الأسعار.. ولم يحدث فيها أي تأثير رغم البشريات التي تزفها الحكومة كل يوم بوجود توقعات حقيقية لخفض الأسعار. والغريب أن الحكومة تعزو ثبات الأسعار علي حالها "المرتفع" إلي جشع التجار وهي نفسها لم تفكر لحظة في إجراء أي تخفيض علي أسعار السلع والخدمات التي رفعتها ليلة تعويم الجنيه حتي تعطي نموذجاً للتجار وتكون القدوة.. فيصبح حديثها عن ضرورة خفض الأسعار في الأسواق له مصداقية.. ويؤخذ علي محمل الجد.. وتكون لديها الحجة التي تطالب بها التجار أو تجبرهم بها علي خفض الأسعار. علي العكس.. التصريحات الحكومية مازالت تحاصرنا بالزيادات القادمة وليس التخفيض.. فالكهرباء سيرتفع سعرها أكثر.. والدواء في ارتفاع مستمر.. وهناك تسريبات عن موجة جديدة من زيادة أسعار الوقود.. البنزين والسولار.. وهو الأمر الذي يعني أننا مقبلون علي زيادات جديدة في أسعار السلع والخدمات.. وما يتبع ذلك من اشتعال أسعار المواصلات والمأكولات والمشروبات. علي كل حال ليس جديداً علينا.. فقد اعتدنا في مصر أن ترتفع الأسعار إذا ارتفع الدولار.. وأن ترتفع الأسعار أيضا إذا انخفض الدولار.. نحن لا نعترف بالقواعد والنظريات الاقتصادية الطبيعية التي يعرفها العالم كله.. ولم يحدث عندنا ولن يحدث أن تتراجع الأسعار بعد أن قفزت لأعلي.. حتي ولو توافرت الأسباب لذلك. كثيرون حاولوا تفسير هذه الظاهرة الغريبة.. وتطرح الآن تساؤلات حول أسبابها مثل : هل انخفاض الدولار يتم بشكل طبيعي نتيجة زيادة العرض عن الطلب أم أنه نتيجة تدخل البنك المركزي بضخ كميات من الدولارات لفترة محددة ثم يعود الدولار لأعلي سعر بلغه في الارتفاع؟!.. وهل انخفاض الدولار جاء لزيادة معدلات الانتاج والتصدير أو حتي خفض الاستيراد مما أدي الي توفير العملة الأجنبية وبالتالي توافرها في الأسواق المالية والبنوك؟! الأغلبية الكاسحة من المصريين لم تعد لديها رفاهية النظر إلي ارتفاع أو انخفاض أسعار الدولار بعين التفاؤل والتشاؤم.. فليذهب الدولار إلي الحجيم.. المهم الآن تخفيف الأعباء الهائلة التي ترتبت علي قفزة الدولار بين عشية وضحاها.. المهم أن تتدخل الحكومة بأية طريقة من أجل أن يجني المواطن قدراً يسيراً من هذا الهبوط البطيء الذي حدث للدولار. البعض يذهب به الطموح بعيداً.. فيطالب الحكومة بوضع تسعيرة جبرية وإلزام التجار بها.. والبعض يتواضع قليلاً ويطالب الحكومة بوضع تسعيرة استرشادية.. أو تحديد هامش لربح للتجار لا يتجاوزونه.. علي أمل أن تتحرك الأسعار في اتجاه الهبوط مع هبوط الدولار.. ويغفل هؤلاء وهؤلاء عن حقيقية أن الحكومة لن تفعل هذا ولا ذاك.. وليس فقط لأن توجهاتها الاقتصادية والتزاماتها الدولية تمنعها.. وإنما أيضا لأنها لم تأخذ المبادرة وتهبط درجة واحدة بالأسعار التي ارتفعت بها درجات.. فكيف تأمر بشيء لم تفعله؟! في هذه الحالة لا نملك إلا الدعاء بأن يكون انخفاض الدولار "بشرة خير" للمصريين.. تنخفض به الأسعار من تلقاء نفسها وليس مقدمة لأعباء جديدة.