حين قلت أن مبارك هو أول رئيس عربي يحاكمه شعبه في التاريخ سارع صديق إلي تنبيهي بأن مبارك هو الثاني أما الأول فهو صدام حسين رئيس العراق السابق.. لكنني استدركت علي الفور مؤكداً - مرة أخري - أن مبارك الأول وأن محاكمة صدام تختلف تماماً عن محاكمة مبارك في معناها ومغزاها. صدام كان يحاكم أمام سلطة المحتل الأجنبي.. بالأدق سلطة واقعة تحت تأثير وضغط المحتل الأجنبي وتابعه له كلية.. وهذا المحتل له مصلحة في محاكمة وإذلال صدام لا تتطابق تمام الانطباق مع المصلحة الوطنية العراقية.. بل قد تتقاطع معها.. ناهيك عن أن القاضي الذي حاكمه كان موضع شك كبير منذ الجلسة الأولي.. وكان الشهود في بعض الجلسات يدلون بشهاداتهم من وراء ستار.. كما أن الإعدام تم علي يد مناوئين وخصوم تشفوا فيه وامطروه بالشتائم البذيئة وعبارات الشماتة في لحظة النهاية وهو ما مثل خروجاً علي التقاليد المعروفة في مثل هذه المواقف التي تراعي المهنية والظروف الإنسانية. لذلك حظي صدام بقدر من التعاطف الإنساني.. وهذا التعاطف نزع من المحاكمة والإعدام الرسالة الجوهرية التي كان يجب أن تصل في حينها إلي الحكام والشعوب العربية.. ووصلت رسالة أخري مغايرة مفادها أن أمريكا أعدمت صدام خدمة لإسرائيل ودعماً لمصالحها في المنطقة العربية وإرهاباً للحكام الآخرين حتي يركعوا ويستسلموا للهيمنة الأمريكية بلا نقاش.. وهذا للأسف ما حدث بالفعل.. فقد سارع القذافي إلي تسليم ما لديه من بقايا ما كان يوصف بالبرنامج النووي الليبي.. وتم هذا في العلن بينما هناك آخرون قدموا أكثر مما قدم القذافي ولكن في الخفاء. ذلك ما حدث مع صدام.. وهو لا يعني بالطبع أي تعاطف معه.. فقد كتبت - شخصياً - عن جرائمه في ضرب المواطنين العراقيين بالكيماوي في حلابجة والدجيل أثناء وجوده في السلطة.. وإنما يعني أن هذه السابقة توضع في كفة ومحاكمة مبارك في كفة أخري. مبارك يحاكم أمام قاضيه الطبيعي وفي ظل نظام وطني يتمسك بالسيادة الشعبية.. ويتمسك بالعدالة المطلقة.. وخارج للتو من الانصهار في بوتقة النقاء الثوري.. ويحاكم بالقانون الوطني الطبيعي الذي يوفر حقوق الدفاع كاملة للمتهمين بعيداً عن أي قوانين أو إجراءات استثنائية تثير الشكوك.. وفضلاً عن ذلك فإن علنية المحاكمة وإذاعتها بالصوت والصورة علي الهواء مباشرة تعطي أقصي ضمانات الشفافية لمن يبحث عنها في الداخل والخارج.. وتنفي أي شبهات. لهذا أقول بأن مبارك هو أول رئيس عربي يحاكمه شعبه قول صحيح مائة بالمائة.. وهنا مكمن الرسالة ومغزاها.. فالثورة هي التي وضعت مبارك في قفص المحكمة.. والثوار هم الذين أصروا علي أن يترك جناحه في مستشفي شرم الشيخ امتثالاً لإرادة الشعب الذي نادي بمحاكمته.. والعبرة واضحة لكل الرؤساء والحكام الذين يحكمون الشعوب سلطوياً ويحرمونها من الحرية ومن العيش الكريم.. هكذا ستكون النهاية ولو طال الزمن.. ثورة فسقوط فمحاكمة فقصاص. وإذا كان هناك من أخذته العاطفة حينما رأي مبارك - المسن المريض - في قفص المحكمة فبكي أو تألم فهو معذور لأن هذه المرة الأولي التي يري فيها الفرعون وافقاً أو مستلقياً أمام القاضي كآحاد الناس.. وهذا أمر - كان - فوق التصور في مجتمع ينظر للحاكم علي أنه الأب أو رئيس القبيلة أو كبير العائلة الذي لا يسأل عما يفعل. بعد محاكمة مبارك سوف تتغير هذه النظرة تماماً ويعود الحاكم إلي مكانته الطبيعية.. خادماً للشعب ومنفذاً لإرادته وحارساً لأمانته.. يأتي من بين الصفوف بكلمة ويعود إلي الصفوف بكلمة.. وإذا لم يقم بمسئولياته علي الوجه الأكمل سيكون مصيره إلي قفص المحكمة. إن محاكمة مبارك وابنيه وأعوانه ليست سوي صفحة من الصفحات العديدة المفتوحة أمام النظام الجديد الذي يتشكل حالياً في مصر.. بل وفي العالم العربي.. ومن شأن هذه المحاكمة التي يجب أن تجري وفق أعلي معايير العدالة والمهنية أن تغير مفاهيم الحكام والشعوب في المنطقة العربية عن قواعد الممارسة السياسية وأصول الحكم.. فمصر هي قلب العالم العربي ورئته.. وما يحدث فيها اليوم.. وما تشهده من تغيرات في المفاهيم.. وما يتردد فيها من شعارات سوف ينعكس علي بقية دول المنطقة شاء البعض أم أبي.. وسوف يكون له دور وتأثير كبيران في مستقبل العرب والعروبة والإسلام. وهذا التأثير لم يكن ليتوافر لمحاكمة صدام التي لم تجر بإرادة الشعب ونزولاً علي رغبته وبالتالي ضيعت علي الشعوب العربية فرصة الوعي المبكر بضرورة إسقاط النظام.