طابور الصباح يقاوم لسعات البرد التي قبضت علي أطراف تلاميذ المدرسة الإعدادية. طابور الصف الثالث الذي يقف بالقرب من دورات المياه يشهد توتراً في نسيجه المهتريء اصطف التلاميذ وهم يولون أنظارهم إلي منصة الإذاعة المدرسية منهم من انشغل بالاستماع لفقرات الإذاعة المدرسية ببلاهة. والبعض الآخر انشغل بالحكايات الجانبية والهمهمات المتشظية التي كان يقطعها مدرس التربية الرياضية وهو يعاين استقامة الصفوف وهدوءها. مؤخرة صفوف الصف الثالث هي قلب الأحداث في طابور الصباح الغول عبد الغول الشمندي يقف في المنتصف. ولأنه طويل جداً فقد كان يحجب أشعة الشمس. وكذلك التلاميذ العابثون خلفه كثرت الحكايات وإلقاء النكات والتعليقات الساخرة علي مقدمي الإذاعة المدرسية. وكذلك السخرية من الناظر الذي يقف بالقرب من ساري العلم. وبطنه منفوخ وشاربه الكثيف غير مشذب ومن مدرس العربي الذي يرتدي بدلة صيفية قديمة جدا من أيام سعد زغلول. لم تكن مُدرسة العلوم التي تهتز مؤخرتها بشكل كوميدي تسلم من التعليقات. فتتمايل الرؤوس كلما تحركت. ما تبقي من وقت الطابور كانوا يقضونه في إفشاء أسرار بيوتهم. فمنهم من كان يلعن أباه لأنه لم يسمح له بمشاهدة التلفزيون. ومنهم من ضبطه أبوه وهو يدخن عُقب سيجارة. ومنهم من كان يحكي عن مطاردة أبيه لأمه في الليل. أثناء تلك الحكايات وقصص السخرية المستمرة كانوا يناوشون الغول في وقفته المعتدلة. فكان اسمه يتردد بشكل موسيقي. فينطق أحدهم الاسم الأول بشكل مخيف. فتردد مجموعة أخري اسمه الأوسط بتطويل حروفه بشكل غيبوبي. ثم ينطق الجميع اسمه الأخير بصوت كله نشاز قام أحد التلاميذ الواقفين خلفه بلسع أذنه اليمني بإصبعه بقوة. مما جعله يتألم بصوت عال. فجعل الناظر ينظر إلي مصدر الصوت. تحرك مدرس التربية الرياضية علي الفور بحثا عن هذا المصدر. ولما كان المصدر مجهولاً وسيظل كذلك. ولن يستطيع أحد من التلاميذ البوح بما حدث. فقد كان يتحرك بين الصفوف وهو علي يقين تام من أنه لن يكتشفه. لم يكن أمام الناظر في ذلك الوقت إلا خطبته الصباحية التي يتخللها التهديد والوعيد للمارقين من التلاميذ الذين يُضبطون وهم يدخنون السجائر والبانجو. كذلك التلاميذ الذين يقومون بأفعال فاضحة خلف دورات المياه. تسلل أحد التلاميذ من وراء زملائه في طابور الصف الثالث فشد بنطلون الغول للأسفل. لكن الغول استدرك الأمر سريعاً. ورفعه دون أن يراه أحد. تلك المرة ابتلع اندهاشه وحنقه. لم يلحظ الناظر أو المدرسون ما حدث. عندئذ تطايرت ضحكات خفيضة من زملائه. لكن تلميذا آخر قصيرا انزلق من بين أرجل زملائه الطويلة. ارتفع قليلاً ولسع الغول بإصبعه في أذنه فتأوه مبتعداً برأسه قليلا ناحية اليسار. كان من الممكن ألا تمر هذه الحادثة علي خير. لأن الناظر رأي ما حدث. فقد قذف بعينيه بين الصفوف ورأي ما بها من عطب. ظل يراقب الحركات محاولاً اكتشاف الخلل المتولد في الطوابير من جراء الأفعال الخلفية التي يقوم بها التلاميذ الفاشلون. لولا أن أحد مقدمي الإذاعة المدرسية نادي بصوت مبحوح قائلا: " مع الطالب الأمين الغول عبد الغول الشمندي". لم يكن اندهاش زملائه في الفصل الذين علت أصواتهم وأحدثوا اضطرابا في الطابور أقل من اندهاش زملائه في صفوف الفصول الأخري أو المدرسين أنفسهم لكن صوت الناظر في الميكرفون قطع فوضي الاندهاش. وكان الغول في تلك اللحظة قد تقدم للناظر وسلمه مسطرة. ثم قال بلهجة آمراة "صفقوا لزميلكم الأمين الغول عبد الغول الشمندي" صفق التلاميد في الصفوف الأخري تصفيقاً حاراً. وكذلك فعلت الفصول الأخري من الصف الثالث. لكن فصل ثالثة ثالث بالذات صفقوا علي مضض وبامتعاض. لما عاد الغول إلي الصف الذي يقف فيه. استشف الغيظ والحنق في وجوه الذين يقفون خلفه. وحاول امتصاصه بلسانه الجاف. والكيد يفح من شفاههم السوداء ربما كان ينظر إلي أقصي اليمين لينظر بطرف عينه اليمني ليري هذا الحنق من خلال الوجوه المقطبة أو الأعين المغمضة أو الأنوف المنكمشة. أو الهمهمات التي اشتركت في إخراجها أسنان حادة متسخة. ولما كان ينظر أقصي الشمال يري وعيداً بالقبض علي الذقن تارة. أو محاولة القبض علي شعيرات الشارب النابتة حديثاً تارة أخري. أو بإصدار صوت مكتوم يوحي بالسخرية الممزوجة بعدم التصديق. لكن الغريب بعد هذه المرة أنه لم يجرؤ أحدهم أن يمد يده ويفعل ما كانوا يفعلون معه. ظل طلاب فصل ثالثة ثالث طوال اليوم ينظرون إلي الغول ويفكرون فيما فعله. حتي الطلاب المتفوقين اشتركوا مع الفاشلين في التفكير في أمر الغول الذي حيرهم. ومما زاد من تلك الحيرة في طابور صباح اليوم التالي عندما نودي مرة ثانية : "الطالب الأمين الغول عبد الغول الشمندي الذي عثر علي كتاب" فتقدم إلي منصة الإذاعة متلفحاً برداء الثقة والفخر. صافحه الناظر وطلب من المدرسة كلها التصفيق له لكن الاستنكار تلك المرة كان أشد وطأة. مما صَعَّبَ علي مدرس التربية الرياضية السيطرة علي الصفوف الهائجة. فاشترك معه بقية المدرسين الذين انتشروا بين الصفوف. حتي المدرسات الحوامل اشتركن متباطئات وأصواتهن الواهنة تتوه بين أصوات التلاميذ الخشنة المستنفرة. لكن الناظر أشار للغول بأن يقف بجواره حتي ينتهي الطابور. وفي ذلك الحين كان يثني علي أمانته. ويحث بقية التلاميذ علي الاقتداء به. هذا اليوم بالذات تحول فصل ثالثة ثالث إلي خلايا صغيرة. اجتمع كل خمسة تلاميذ معا وراحوا يناقشون الوضع الراهن. ربما أدرك المدرسون القضية المطروحة فتخاذلوا عن الشرح. وغضَّوا البصر عن المؤامرات التي كانت تحاك ضد الغول. والتي عرفها الجميع إلا هو الغريب أن الغول كان يجلس في الفصل صامتاً ينظر إلي السبورة ببلاهة. ثم يقوم بمسح ماكُتب عليها في اليوم الدراسي السابق. لم يعر أسماعه لكلمات السخرية التي كان يلقيها البعض علي ظهره كان الطلاب المتفوقون هم أقل التلاميذ عداوة للغول. فكل ما كانوا يستطيعون فعله هو تحريك عضلة الخد الأيمن لخلق حالة من الامتعاض المهذب. اليوم الثالث لاحظ تلاميذ المدرسة شيئاً غريباً موجوداً في الطابور. فقد وقف أمام كل فصل مدرس والناظر تخلَّي لأول مرة عن منصة الإذاعة. راح يجول بين الصفوف. اكتشف أن رؤوس عدد كبير جداً من التلاميذ كثيفة الشعر. وأظفارهم مخيفة وسوداء وأحذيتهم متسخة. لكنه لم يحاول أن يحاسبهم في هذا اليوم بالذات لأنه مختلف تماما. ربما كان تلاميذ فصل الغول أكثر حرصا هذه المرة بسبب التواجد الأمني المكثف للمدرسين وكذلك الناظر. فكانوا يقومون بأفعالهم الخلفية مع الغول بحذر شديد. لكنه لم يكن يصدر أصواتاً في هذا اليوم. واحتمل ضربات موجعة في جنبيه. كذلك لم تسلم ساقاه من ركلات متتابعة تعرقل حصاناً تعرفه المعارك القديمة ومضمار السباق الشهير. ومع هذا فكان أكثر تحملاً من ذي قبل. ربما لاحظ المدرسون ما يحدث. وربما لاحظ الناظر نفسه لكن مع هذا التزم الجميع بضبط النفس وابتلاع ماقد يحدث من مناوشات. عندئذ أعلن مقدم الإذاعة المدرسية بصوت جهوري: "الطالب الأمين الغول عبد الغول الشمندي". كان الناظر في تلك اللحظة يقف بجوار الغول فأمسكه من يده. وتقدم معه إلي الإذاعة. اقترب من سماعة الميكرفون قائلا : صفقوا لزميلكم الأمين الذي عثر علي نقود. ألجمت المفاجأة تلاميذ المدرسة فجعلتهم كهشيم محتضر ربما كان الصمت الذي تولَّد من تلك اللحظة لم يمر به أي منهم في حياته. وربما لو استدعي الناظر قوات الأمن لحفظ الهدوء والسكون في المدرسة مثلما يحدث الآن لفشلوا في تلك المهمة. لم يسمع التلاميذ الناظر عندما قال "صفقوا لزميلكم الأمين في المرة الثانية. لكنهم سمعوه في المرة الثالثة عندما رفع صوته قليلا. كان التصفيق تلك المرة ممزوجاً بخيبة أمل وعدم تصديق تمتطيهما دهشة بالغة. ربما كانت أيديهم متشبثة من المفاجأة. وقف الغول في هذا الوقت بالذات شامخ الصدر وعيناه تلتقطان الدخان الأسود المتصاعد من وجوه زملائه في الفصل. وامتد ليغيم علي رؤوس بقية الفصول. لكن الصفوف بعد ذلك شهدت فوضي عارمة. فلم يلتزم الطلاب بالاعتدال في الطابور. عندما نودي لتحية العلم كانت الأصوات متخاذلة وفاترة. ردد بعضهم اسم الغول الثلاثي متناغما مع مرات تحية العلم الثلاث. الأيام التالية كانت من أصعب الأيام التي شهدها فصل ثالثة ثالث. امتدت آثارها للفصول الأخري. وكذلك الصفوف الباقية. في المكتبة كان القُراء يحكون عن أمانة الغول ولكن باندهاش يحوِّره البعض إلي حكاية يكتنفها الغموض. أما في غرفة المدرسين دارت الحوارات عن الغول وحكاياته التي امتدت لمآثر أخري قام بها. مثل تبرعه بالدم في المستشفي الدولي. وعثوره علي خاتم ذهبي خاص بإحدي المدرسات. وكذلك محفظة خاصة بالأخصائي الاجتماعي. المؤامرة التي حاكها زملاؤه في الفصل اكتملت فصولها قسموا أنفسهم إلي مجموعات لمراقبة الغول. فمنهم من راقبه في الفصل مثلما يراقب عنقه من الصفع المباغت. أهمل الجميع شرح المدرسين أو التجاوب معهم. مجموعة أخري تراقبه خلال فترة ما قبل الوقوف في الطابور. ومجموعة تراقبه في الفسحة كظله. ومجموعة تراقبه حتي يصل إلي بيته وإن تاه في الوصول إليه. الغريب أن كل المجموعات أقرَّت بفشلها في اكتشاف سر الغول المقدس. وأقروا بأمانته ونزاهته. وتحولت كل معاني الاحتقار والسخرية إلي معان أخري ممزوجة بالاحترام والتقدير. وكاد الغول يصبح بطلاً شعبياً في المدرسة بعد أن امتدت حكاياته للمدارس الأخري. وقيل إن مدير المديرية كرَّمه بنفسه. وانتشرت إشاعة أخري بأن الوزير أرسل له شهادة تقدير. ولم تلقِ البنات في مدارس البنات القريبة من مدرسته بالاً لبنطلونه المهتريء أو قميصه الممزق أو شعره المجعد. ولكن لأمانته التي وصلت للآفاق. لولا زميل واحد لم يكِّل عن مراقبته. اكتشف السر المقدس في الفسحة فضبطه تلك المرة. صرخ بصوت عال فجمع كل التلاميذ. وجدوا أن الغول يضع يده في حقيبة أحد التلاميذ الذي كان يلعب كرة القدم في الفناء الكبير. وانهالوا عليه ضربا بالأيدي وركلا بالأقدام. جاء الناظر والمدرسون. عندئذ انهار بسبب شدة الضرب. واعترف بأنه كان يسرق الأشياء من حقائب التلاميذ. ويذهب بها للناظر مدعياً عثوره عليها. في تلك اللحظة حاول الجميع أن يسحبوا يده من الحقيبة التي كان متشبثاً بها. إلي أن خارت قواه فأخرجها وهو قابض علي ساندوتش فول يتمزق وتتفتت أحشاؤه كلما شد أحدهم يد الغول التي تشبثت تماما به. بينما أمطره الآخرون بضربات متتالية موجعة وهم يرددون بنغمة انتصار ممزوجة بسخرية سوداء التلميذ الأمين الغول عبد الغول الشمندي.