أنا فتاة شابة تخرجت في إحدي الكليات المرموقة من أسرة ميسورة الحال.. فأبي ظل يعمل طبيباً لسنوات طويلة في دولة عربية وكان يغدق علّي وعلي شقيقاتي الثلاث فضلا عن والدتي وكأنه يحاول تعويضنا عن فترة غيابه عنا لقد كان يتحمل شقاء الغربة وعناء الوحدة ليحقق لنا حياة كريمة ويؤمن مستثقبلنا ويضمن لنا السعادة ويبعد عنا شبح الشقاء وحقق لنا معظم أمنياتنا حتي صار لكل واحدة منا سيارتها الخاصة. في لحظة قرر أبي انهاء عمله بالخارج والعودة إلي بلده بعد ان أضنته سنوات الغربة واشتاق إلي حياة الاستقرار ودفء الأسرة مع زوجته وبناته الأربع. عاد أبي وكله يقين بأنه سيجد مكانته الطبيعية كرب أسرة تفاني في إسعادها وأنفق سنوات عمره من أجل تحقيق أمنياتها عاد ولم يخطر بباله ان احترامه سيكون موضع شك وان كلمته لن تسمع ولن يأبه بها أفراد أسرته! ضاقت أمي وشقيقاتي ذرعا بأبي ورحن يرفضن توجيهاته ونصائحه واتسعت الهوة بينه وبينهن وكنت أستشعر الألم الذي يكابده عندما وجد نفسه يعامل معاملة الغريب وليس الزوج والأب كان كلما حاول استئناف دوره في إدارة دفة البيت استقبل بالتندر والاحتجاج المتواصل من جانبهن ولسان حالهن يصرخ في وجهه بلا رحمة أو شفقة هذه حياتنا التي اعتدنا عليها في غيابك ولن تأتي الآن بعد هذا العمر لتغيرها. لم يتحمل أبي هذه الصدمة التي لم يتوقعها وكنت أحاول التخفيف عنه ولكن المرارة والأسي كانت أكبر بكثير مما أظن في صمت قرر ان يعود غريبا كما كان طوال حياته معنا ولكن غربته هذه المرة لم تكن بالسفر ولكن كانت بنزوله إلي العمل ومزاولة مهنته طبيباً مرة أخري والانهماك الشديد في عمله والبقاء فيه أطول فترة ممكنة ليعود إلي البيت في موعد نومه. افتقدت والد من جديد وصار حاله يرثي له بعد ان التزم معنا الصمت وبدأ يخدم نفسه بنفسه تلك الغربة الكئيبة رغم وجوده بيننا صارت شبحا أخشاه وأمتلئ رعبا حين اتصور انه من الممكن ان يطل علي حياته ومستقبلي حيث تقدم للزواج مني شاب طيب مثل ابي يعمل في إحدي الدول الخليجية يحدوه الأمل والتفاؤل بمستقبل كله ثراء وسعادة أصابني القلق من تكرار تجربة أبي في السفر والغربة لتصبح كل علاقته بأسرتي علاقة الضيف الزائر أو البنك الممول لاصاحب البيت.. فبماذا تنصحيني سيدتي؟ ت.م.ق-الجيزة المحررة ابنتي..والدك ليس الحالة الوحيدة بل هناك آلاف الحالات مثله ذاقوا مرارة الغربة وشقاءها من أجل سعادة أهلهم وحين آن أوان رد الجميل لم يجدوا من اقرب الناس إليهم سوي الجفاء والصد إلا من رحم ربي. وكم عرضت من خلال هذا الباب قصصاً لآباء تجرعوا مرارة الجحود والانكار ليس ممن سافروا للخارج فقط بل أيضاً ممن يكدحون في الداخل ويواصلون السعي ليل نهار لتوفير لقمة العيش والحياة الكريمة لأولادهم ولا يعودون إلي بيوتهم إلا عند النوم. الحياة يا عزيزتي لا تمنحنا كل شيء فمن يسعي للاستقرار المادي وحده علي حساب باقي منظومة الحياة الأسرية فلابد ان تصيبه شظايا هذا الخلل مثلما أصابت أباك! ومخاوفك من تكرار مرارات أبيك يمكن ان تكون بلا مبرر إذا استوعبت درس الحياة المرير الذي كنت إحدي شهوده وضحاياه المهم ألا تكرري أنت مع زوجك- بإذن الله- عندما تستبد به الغربة ما فعلته أمك مع والدك. فالزوجة الواعية المخلصة المدركة لدورها في الأسرة هي التي تحفظ زوجها وترسخ مكانته واحترامه بين أولاده سواء في وجوده بينهم أو في غربته عنهم وتذكرهم دائماً بدوره وعطائه وفضل الله عليهم بوجوده من أجلهم. بارك الله فيك ايتها الابنة البارة ولا تجعلي تجربة مهما كانت مرارتها تفسد عليك سعادتك ومستقبلك.