هل يمكن أن يتجاوز التاريخ في رصده ثم تقييمه بعض العشرات من السنين؟! وهل يمكن له أن يتلكأ في لحظات بعينها؟ لا شك - عندي - أن الاجابة نعم في الحالين فكثيرا ما مر التاريخ عابرا علي نصف قرن وأحيانا قرن في حديثه عن مجال ما .. وربما عصر ما بأكمله هذا ما أستشعره تجاه تعاطينا - العالة - لمنجز غيرنا الحضاري واختيار ما يوهمنا به الهوي وكسل الاستطاعة من تطبيقاته .. كتعاملنا مع الحداثة وما بعدها باعتبارهما ظاهرتين فكريتين لا تتجلي تطبيقاتهما إلا في اختراق التابو الديني والجنسي والكتابة عبر النوعية . تحديدا التعامل مع قصيدة النثر إبداعا ونقدا باختصار عندما أسمع بعض أساتذتنا وأصدقائنا منفعلين في مقارناتهم ما بين رجعيتنا الفكرية والعلمية وتخلف خطابنا الديني . وبين الغرب الذي تجاوز الحداثة لما بعدها وأتحدي أن يعرف الكثيرون الفوارق بينهما والدواعي والنتائج! وأن الامر في بلاد المنشأ لم يكن مرهونا بالشعر أو الفن التشكيلي أو الموسيقي مثلا ... ستجد دائما ظرفا مجتمعيا ولد من رحم السياسة أفرز فلسفته التي صارت أما ومرشدا لمنجبها ثم تجسدت تجلياتها في العلم ثم الفن . الادب تحديدا أي أن الغرب عندما يتحرك من المطلق اللامحدود إلي الفيزيقي الملموس فقد استنزف الاول وتجاوزه ستجد هذا في الموسيقي وكرة القدم والطب وقصيدة النثر ستجده في العلم الفيزيقي ذاته .. يكفيك أن تشاهد أول جهازي كمبيوتر وسيشوار وتقارنهما بأي جهازين اليوم : حجما .. سرعة .. صوتا باختصار الظرف لدي الاخر أنجب فلسفته التي أفرزت معارفها وتجلت علما وأثمرت فنونا وأداء مجتمعيا ككل.. كفريق موسيقي بارع مكتمل متدرب حافظ للحنه السباك والبرلماني والبارمان ولاعب الهوكي والطبيب والفلاح ورجل الدين ورجل السياسة كل هؤلاء مروا معا عبر طرق ممهدة متمهلة لمسارات الحداثة وما بعدها عقب ظلام أسوأ مما نحن فيه . من هنا أري - وقد أكون علي خطأ - أننا نقلد ثمارا لغيرنا دون الارض والفلاح والظرف والمناخ والاحتياج . وتلك الثمار فيما ظنناه سهلا - الابداع- فانفصلنا مرتين عن المجتمع مرة بثمرة من ليس لديه مبررات ظهورها ولا كيفية تعاطيها . ومرة بالوهم حين ظننا حداثتنا مقابل رجعية المجتمع الذي يتم التعالي عليه - معظم النخب تسب الشعب - من تلك الموجودات قصيدة النثر - التي أكتبها وأحبها - صرنا كمجموعة كل واحد فيها سرق مولودا لاخر من خارجها ثم نسبه لنفسه مستعينا بشهادة أفراد مجموعته لاثبات نسبة فسترنا جميعا بعضنا وتسترنا علي فعلتنا قصيدة النثر العربية عموما والمصرية تحديدا تمر بمأزق إبداعي خطر ونقدي عظيم الخطورة وكم أتعجب عندما أري معظم نقدها هشا يفتقد لقوة التنظير وحجة التدليل والاكتفاء بإراقة مصطلحات أعتبرها ابنة غير شرعية لواقع الترجمات! فقط يتسلح الناقد ب التداولية.. سيموطيقا القبح.. المعيش.. الانتقال من المطلق الكلي للبصري المدرك الصغير والآفة الوقحة حين يصدر لك قليل العلم أو المغالط عن عمد مفاهيم من نوعية أن قصيدة النثر تطوير للشعر لا تنويع!! و أنها استجابة حداثية أو بعد حداثية نابعة من تغير نظرة الانسان للكون وانتقاله من مرحلة المطلقات والكليات لعالم التفاصيل المعيشة البصرية أي إنسان؟ أي عالم؟ يقينا هو الانسان الذي استنفد ثمار فلسفات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ثم جاء القرن العشرين فذاق الانسان من العلم آلته العسكرية في الحربين فكفر بكل المطلقات والتاريخ وأعاد النظر في الثوابت واتخذ من الفيزيقي يقينا لا يحتمل التأويل فأنتج من ضمن ما أنتج في شتي ضروب الحياة قصيدة النثر . أما نحن.. فبم مررنا..؟! لا شيء.. ثم تعالت طلاسم لغوية وجمالية وعروضية ونقدية بنيوية تزيد الغامض تعقيدا فكانت راحة العرض والطلب أو العرض والقدرة فظهرت قصيدة النثر في النصف قرن الماضي لا تنتسب لممارسيها إلا باختيارهم لا ببصماتهم . ويتحدث عنها وعنهم نقاد يشرحون الكائن الغريب بالكلمات المموه فتشوهت آلاف الاجنة . وتشابهت آلاف المواليد إلا من ندر. وذلك لا يعني عدم وجود نماذج لمنجز قصيدة النثر لها الفرادة والروعة . كما توجد بعض الجهود النقدية الجادة القليلة جدا.. لكننا في حاجة لتأسيس نقدي عربي ممنهج لقصيدة النثر » حتي لا تزيد الامور انفلاتا ولذلك أخشي أن يتلكأ تاريخ الابداع أمام عطاء قصيدة النثر العربية في الربع قرن الاخيرة و خاصة المصرية في ظل العادية و الاستسلام الجمالي ارتكانا لوهم الهامشي والمعيش والتفاصيل فصارت تفاصيل نفس الجغرافيا تنتج عشرات النصوص المتشابهة!