رغم أن ظاهرة العنونة من الظواهر المضافة في الفترات الحديثة للنص لم يتكئ الشعر الجاهلي أو الشعر في العصور الإسلامية عليها. وكانت القصيدة في معظم التاريخ الأدبي تلحق غرضها,أو رويها بالإضافة لشاعرها. فقد كان يقال لامية الشنفري. أو مرثية أبي ذؤيب. أو القصيدة اليتيمة. إلخ... إلا أن العنوان في العصر الحديث صار له الكثير من الأهمية والحق أن عنوان ديوان "أنا ضحكة الماء حين أمر" الصادر مؤخرا عن سلسلة الإبداع الشعري المعاصر بالهيئة المصرية العامة للكتاب هو ما لفت نظري لقراءة ديوان الشاعر أحمد اللاوندي فهو خطوة جديدة من مسيرة الشاعر التي تمتاز بالنص الغنائي بكل صفاته الموسيقية والأسلوبية. حيث يلتزم الشاعر بالوزن الخليلي وبطريقة تجعل للموسيقي حضورا عاليا في النص كما في قوله: "تحنُّ الرُّوحُ يا "ليلي" لطلَّةِ وجهِكِ الرَّائعْ / لنهرِ براءةي يمحو جسارةَ حزننا الفارعْ / فمُرِّي مِنْ هُنا مُرِّي لترحلَ ظُلمةُ الشَّارعْ" وكما هو واضح حرص الشاعر علي الوزن. وعلي التقفية. وينتشر هذا الحرص في الديوان كله مما يجعلنا نكاد نجزم أن الشاعر يعتنق الإيمان بالوزن في النص كإحدي مقوماته. فالحق أنا لم أقبض علي الشاعر متلبسا بالتجريب خارج الأطر الخليلية في كل الديوان. أما أساليب النص الغنائي فقد حضرت بشدة في كل القصائد ويتمثل هذا في: 1" حضور الذات الشاعرة في كل النصوص: فلم يتناول الشاعر قضية مجردة يتكلم عنها بذاتها حتي حين تكلم عن الوطن وهمومه. ولم يعدد هذه الهموم ويصنفها كناقد معارض لأوضاع سيئة لكنه رصد تأثره كإنسان وكشاعر من هذه المشكلات حيث يقول: "لا الْحُزْنُ يَرْحَلُ مِنْ دِمَانا. لا الْهَزائمُ فَارَقَتْ سَمْتَ الرُّؤي. ما عَادَ لِلْكَلِمَاتِ لَحْنى أعْذَبُ / يا مِصْرُ لا تَبْكِي إذا انْكَسَرَ النَّشيدُ. وَضَمَّ قِطَّتَنا الأليفةَ عَقْرَبُ / سَنَظَلُّ نَصْرُخُ في وجوهِ السَّارِقينَ شُموسَنا فشُموسُنا لا تغْرُبُ" 2" الإنشاد: بعض النصوص الحداثية من الصعب التفاعل معها دون قراءة فشعراؤها يستخدمون التشكيل البصري. وفضاء الصفحة. وتقنيات أخري تجعل من الصعب أن يتفاعل معها المتلقي سماعيا. لكن شاعرنا يستخدم جملا تامة علي الأسطر الشعرية. متناسقة الإيقاع. تدور فيها القافية بصورة منتظمة. وتكاد تكون بدورات متساوية. مما يعطي الشاعر ونصه حضورا في تجمعات الإلقاء الصوتي. ولا يشعر المتلقي بتيه. أو عدم تواصل ويصير سيان أن يسمع النص أو يقرأه..كقوله: "مُرِّي عَلَيَّ لكي يَفُوحَ يَرَاعِي. وَيَزُولَ هَذَا الغَيْمُ مِنْ أضْلاعِي / مُرِّي عَلَيَّ فَقَدْ تَعِبْتُ مِنَ الجِرَاحِ جَمِيعِهَا. وَالدَّمْعُ أغْرَقَ مُهْجَتِي. وَشِرَاعِي / صَعْبى أعِيشُ العُمْرَ يَسْكُنُني الرَّدي. وَجَعُ الحَيَاةِ يَئِنُّ مِنْ أوْجَاعِي / مَازِلْتُ أحْلُمُ يَا أمِيرَةُ بالهَوَي..لا. لَيْسَ غَيْرُكِ تَشْتَهِيهِ بِقَاعِي". 3" مخاطبة العاطفة والعقل دون تعقيدات تصويرية: لا يميل الشاعر إلي الصور المركبة كثيرا. أو إلي مواراة المعاني ومداراتها فهو أقرب للتأثيرية من أي شيء أخر. لهذا نجده يستخدم التعبيرات الجميلة والصور الرشيقة ببلاغة جلية في عرض واضح لقضيته. أو تجربته وكأنه يريد أن يستحوذ علي المتلقي كله بكل أحاسيسه وتفكيره لشحنه بما يريد.. يقول: "قلْ: كيفَ نمشي والطَّريقُ مُروِّعَةْ؟ مُدُنُ الغوايةِ حاصرتْ نخْلَ الرُّؤي. ويمامُ قلبيْنا انزوي هلا نعودُ الآنَ حتَّي نسْمَعَهْ / هذي جراحُ الشَّوقِ تنزفُ. والهوي سُفُنى يُطاردها انكسارُ الأشْرِعَةْ / سِتُّونَ حُزْنًا والبلادُ بلا بلادي . والمَدي شَبَحى يُطلُّ. وقَدْ فقدنا الأمتِعَةْ" 4" المشاركة: بذكاء فني يستخدم اللغة فيميل إلي إسقاط تجاربه علي هموم عامة إنسانية وسياسية وغير ذلك مما يشترك في تقاسمه الجميع من الهموم فيخاطب المتلقي بضمير المخاطب. الغائب أحيانا والحاضر أخري مثلا حين يتكلم عن تكميم الأفواه رغم وجوب الشكوي يقول أحمد اللاوندي: "قُلْ ما تُريدُ لكي تجيءَ سحابةُ الفَرَحِ القديمِ. وكي يَمُرَّ أمامَ غيمِ الرُّوحِ طَيفْ / قُلْ ما تُريدُ فكمْ ظللتَ العُمرَ مقهورًا. ومأسورًا؟ / وكمْ ضاقَ البراحُ أمامَ خطوِكَ فانْكَسَرْتَ وأنْتَ بَيْنَ الأهْلِ ضَيفْ؟" وأما من الناحية الموضوعية فهو كما يتكلم عن نفسه يتكلم أكثر عما يشترك فيه وأبناء الوطن من هموم فها هو يكتب: "هذي الكآبةُ لَمْ تزلْ ترنو لنا" وعن مفهوم الأخوة في مكان واحد يقول في قصيدة أخي: "جِئْتَ بِسَيْفِكَ كَي تقْتُلَنِي / لَكِنِّي جِئْتُ بِسَيْفِي كَي أحْمِيَكَ بِهَذَا الدَّرب" أو يتكلم بضمير الجمع فيقول: "أمَا آنَ أنْ نَتَوَحَّدَ يَا شَعْبَنا الْعَرَبِيَّ لِنَطْرُدَ كُلَّ الْغُزَاةِ. وَنَنْصِبَ مِشْنَقَةً للِّصُوصِ. وَمِشْنَقَةً لِلْغَجَر" ومن القضايا القومية حضور قضية القدس فيطل علينا بقوله: "لا جُرْحَ يُشْبِهُ جُرْحَنَا / وَدِّعْ سِنِينَ الْخِزْيِ. أعْلِنْ أنَّنَا أُسْدى بِسَاحَاتِ القِتَالِ وَسَوْفَ نُرْجِعُ قُدْسَنَا" وهكذا نجد حضورا كثيفا للقضايا المشتركة في الديوان يعبر عنها شاعرنا في رغبة وإصرار بضمائر الجمع. أو إعلان الفئة المقصودة بالخطاب كالعرب والمصريين. ورغم أن مساحة الحزن والانكسار وأسبابهما كثيرة في الديوان ويتضح هذا في الأمثلة السابقة فإن بالديوان مسحة من الحلم والأمل وكأن الشاعر يري أن الفرح ليس بعيدا رغم كثافة الحاضر المر.. فقط هي انفراجة وسترتوي الأرض التي تشققت من الجفاف حتي تسمع صوت الضحكة من انسياب الماء وهو يغمر الشقوق التي خلفها العطش..وهي الصورة العميقة المرسومة في عنوان الديوان والتي ندركها نحن القرويون الفلاحون حين نروي الأرض العطشانة بركلة من القدم للسد أمام الماء فينساب غامرا الأرض محدثا صوتا ككركرة الضاحك وهو يتغلغل في الشقوق وكأن الشاعر يطمئننا ويحفزنا علي ري أنفسنا. هي ركلة لا أكثر. ومسحة الحلم والأمل الأخري جاءت في الإهداء فالشاعر يهدي الديوان إلي ابنته "لمي" وهي الطفلة التي لم تزل دون السادسة من عمرها.. وكأنه لا يفقد الأمل,فإن لم يجده في الكبار فهو ينتظره في المستقبل- متمثلا في الطفلة - فيهدي إليه عصير روحه الشاعرة ليتزود به. كما جاء المفتتح دالا علي هذا الأمل.. يقول: "مَعَهَا / يُصْبحُ هذا الضَّيِّقُ / أوْسَعَ / مِنْ أيِّ بَرَاحي / آخَرْ" فقد تعود معها "الطفلة / المستقبل" أو "القصيدة / الحلم" وكأن الشاعر يحثنا لننساب كموج الماء نغمر شروح أرواحنا بركلة واحدة نشوط بها الخوف.