إن الإبحار في العالم السردي للروائي الكبير محمد جبريل يضع اليد علي بعض مفاتيح الدخول لعوالمه الروائية . ومن تلك المفاتيح وأبرزها . مفتاح الارتباط المكاني للشخصيات . والذي يمكن اعتباره مبدأ شارحا في تأويل عالمه السردي . ونوضح في البداية أن طبيعة ذلك الارتباط تتجاوز مجرد النوستالجيا . أوالحنين الرومانسي للمكان . فالارتباط المكاني للشخصيات هنا . يتجاوز ذلك إلي ما هو أعمق بكثير . إنه ارتباط عضوي علي الطريقة المصرية. فالشخصيات لا تنفصل عن المكان علي الرغم من أن بقاءها في المكان قد يكون هوسبب شقائها واستمرار مأساتها والغريب في الأمر أن الشخصيات لا تفكر في خيار الفرار أوالهروب من المكان فخيار الفرار من المكان غير مطروح في وعي الشخصيات وهنا نستنتج دلالة تربط السياق الروائي عنده بالسياق الثقافي العام الذي أنتج فيه حيث يتوازي هذا الارتباط السردي بين مكوني الشخصية والمكان كعنصرين سرديين مع الارتباط الواقعي بين الشخصية المصرية وأرضها وهوالارتباط الذي يمثل جينا متوارثا تتناقله الغالبية العظمي لكل من عاش علي أرض مصر منذ سنوحي الطبيب المصري القديم الذي تمثلت مأساته في فراقه وطنه مصر وظل يكافح من أجل العودة برغم توافر كل سبل الحياة الكريمة له في المنفي حتي كانت عودته إيذانا بانتهاء المأساة . ولا نري في ذلك تعسفا في تأويل العالم السردي حيث قد سبقنا الدكتور ميلاد حنا في كتابه الأعمدة السبعة للشخصية المصرية إلي القول بوجود ما يشبه الجينات المتوارثة المتناقلة في الشخصية المصرية جيلا بعد جيل ومنذ العصر الفرعوني . ونحن نقترح هنا أن يكون أحد تلك الجينات هو جين الارتباط المكاني للشخصية وندلل علي وجوده بكتابات الروائي محمد جبريل فالكتاب هم ضمير الأمة وفي أعمالهم يتجسد الوعي الحقيقي لشعوبهم . أوليست الرواية كما يقال هي تاريخ متخيل يتم إنتاجه في سياق تاريخ حقيقي؟ وذلك الارتباط المكاني يتمظهر في العالم السردي عن الروائي محمد جبريل ويعلن عن نفسه عبر عدة ظواهر منها: عتبات النصوص : والعنوان عتبة لدخول المتن - بحسب قول جينيت - وعندما نبدأ باستعرض عناوين أعماله نجد ما يقارب نصفها إما يحمل إشارة مكانية مباشرة مثل : سوق العيد حارة اليهود الأسوار قلعة الجبل الخليج الشاطئ الآخر رباعية بحري بأجزائها المينا الشرقية حكايات عن جزيرة فاروس وإذا أضفنا كتاباته في أدب المقال وفي الدراسات نجد مصر...من يريدها بسوء مصر في قصص كتابها المعاصرين والذي نال عنه جائزة الدولة التشجيعية في الأدب وكذا مصر المكان . وإما أن نجد العناوين تحمل إشارة مكانية غير مباشرة أو إشارة إلي حدث يستوجب حدوثه حضور مكاني ومثال ذلك : الصهبة النظر إلي أسفل البحر أمامها إلخ . ارتباط المكون المكاني بأزمات الشخصية ولحظات تحولاتها الفارقة في مسارها السردي : ففي رواية الصهبة نقف علي حالة من الوعي الملتبس بين الواقع والوهم فالشخصية الرئيسية منصور سطوحي " والذي يعاني من فقدان الاتجاه بعد وفاة الأب الذي كان يسيطر علي كل مقدراته ومسارات حياته يقع في مخيلته حدوث الصهبة " وهي تجمع أشبه بالموالد الشعبية وله طقوس خاصة لا تخضع لمنطق العقل " في مكان الساحة المقابلة لمسجد نصر الدين وهنا يرتبط المكان بالحدث الرئيسي في الرواية وهوالصهبة والتي تجد الشخصية نفسها قد تورطت فيها بطريقة ما ثم تجد نفسها مطاردة من قبل أصحاب الصهبة وتمضي الرواية في تدفق مراوغ فهل حدثت الصهبة حقا أم أن محقق البوليس الذي ينفي حدوثها كاذب أم أنها حدثت في توهماته ليكون البرنامج السردي لشخصية منصور سطوحي والذي ينتظم مسار الرواية مجسدا لقول ابن الجوزي في " ذم العشق " حيث يقول : والتحقيق أن العشق شدة ميل النفس إلي صورة تلائم طبعها . فإذا قوي فكرها فيها تصورت حصولها وتمنت ذلك فيتجدد من شدة الفكر مرض " . وفي رواية "الشاطئ الآخر" تطالعنا أزمة الشخصية حاتم رضوان مع السطر الأول في الرواية " قال أخي : أريدك أن تترك الشقة ! " فأزمة الشخصية ومعاناتها تتمثل في فقد المكان أو في أن تجبر علي تركه . وفي رواية " المينا الشرقية " ترتبط أزمة الشخصية الرئيسة عادل مهدي في وجودها المكاني بمقهي المينا الشرقية » حيث تقام الندوة الثقافية وحيث فضاء شكوكه وارتيابه في المحيطين وتخميناته عمن يكون العين المراقبة التي ترصد عليه كل كلمة والملاحظة اللافته هنا أن أزمة شخصية عادل مهدي كان يمكن أن تنتهي من بدايتها إذا قررت الشخصية منذ بداية شعورها بالمراقبة أن تنفصل عن المكان - مقهي المينا الشرقية - لكنه ذلك الاصرار الدفين بأعمق أعماق النفس علي الاصرار علي البقاء في المكان برغم ما تجابهه الشخصية فيه عذابات . 3 - التوظيف الثقافي للمكان وارتباطه بوعي الشخصية : ففي رواية الشاطئ الآخر يكون انتقال حاتم رضوان من شقته إلي منزل الأسرة اليونانية أوإلي شقة ديميتري بمثابة الانتقال من ثقافة إلي ثقافة مغايرة أوعلي حد قول الشخصية " إلي دنيا غريبة جميلة لم يسبق لي دخولها : كازنتزاكس وناظم حكمت وبلزاك وزولا وفلوبير وفرجينا وولف وجيمس جويس وعشرات الأسماء التي عانيت في أول نطقي لها وعرفت هوميروس وإسخيلوس وأفلاطون وأرسطو.." في مقابلة مع شقة أبيه التي ترتبط بثقافة مغايرة يقول :" حولت النملية إلي مكتبة كدست فيها الكتب والمجلدات وقصاصات الصحف . وعلي الجدار لوحة لأدهم وانلي في غلاف مجلة وتدلت سبحة كبيرة الحبات . " ففي هذا الاطار المكاني المغاير يوجد إطار ثقافي موازي يقول :" كنت أقرأ لطه حسين والعقاد والمازني وأحمد أمين وهيكل والحكيم والزيات والمنفلوطي والسحار والبدوي ونجيب محفوظ ". 4 - كثافة الحضور المكاني : وتلك سمة أسلوبية بارزة في الخطاب السردي عند الروائي محمد جبريل فتواتر الإشارات المكانية وكثافة حضورها يخرج عن مجرد الإكتفاء برسم رتوش مكانية لتكوين فضاء مكاني يشكل خلفية تتحرك عليها الشخصيات أو يؤطر ما تحدثه من أحداث أويقع عليها من وقائع بل نجد إصرارا من أديبنا علي ذكر تفاصيل الأماكن والأحياء والشوارع واستقصاء تفاصيل مدينة الإسكندرية - التي تمثل بالنسبة له المجال الحيوي لارتباطه الوجداني - خاصة حي بحري وكأنه يقوم برسم خريطة للمكان بالكلمات أوحفر تفاصيل المكان في المشاهد الروائية حتي لا ينسرب من الذاكرة . ففي مطلع رواية الصهبة علي سبيل المثال نجد ما يقارب سبع عشرة إشارة مكانية في حوالي إثني عشر سطرا . ولا نعدم علي مدار عوالمه السردية وجود الكثير من الشواهد الدالة علي كثافة الإشارات المكانية علي النحو الذي أشرنا إليه . وذلك علي نحويؤكد ما بدأنا به من أن ارتباط الشخوص بالمكان عند الروائي الكبير محمد جبريل له دلالة مزدوجة الأولي تقع داخل الخطاب السردي علي نحويجعل من ذلك الأرتباط أعمق من أن يكون مجرد خلفية تتحرك عليها الشخوص والأحداث والثانية دلالة تتجاوز الخطاب إلي السياق التاريخي لتجعل من ذلك الارتباط انعكاسا لعلاقة الشخصية المصرية بأرضها .