إنك لا تسبح في عرض النهر الواحد مرتين، مقولة مأثورة تعني أن كل شيء لا ينتهي كما بدأ، بل يتطور ويتغير شكلا ومضمونا، فأنت حين تسبح في النهر أول مرة ثم تعود إلي السباحة مرة أخري تكون المياه قد تغيرت وأصبحت غيرها. تنطبق هذه القاعدة علي الماديات والمعنويات، فاليوم غير الأمس والمستقبل غير الحاضر لأن التغير هو سنة الحياة، وليس صحيحا القول بألا جديد تحت الشمس. والشيء الوحيد الذي لا يتغير هو الموت «تعددت الأسباب والموت واحد» فهو نقيض الحياة، وطالما أن الحياة قائمة فإنها تتطور وتتغير بقوة الدفع وأشواق البقاء، وفي ذلك يقول أبوالقاسم الشابي: «ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر». لقد سنحت لي هذه الخواطر بعد أن قرأت رواية «أهل البحر» للكاتب الروائي الكبير محمد جبريل، وهي تتكون من جزأين أولهما من أربعمائة وخمسين صفحة، والثاني من أربعمائة واثنتين، إذ تؤكد لنا هذه الرواية أن محمد جبريل لا يسبح في بحر الإبداع مرتين، فعلي مدي أكثر من ربع قرن تنوعت أعماله، فلم يكن أحدها يشبه الآخر لا في موضوعه ومضامينه ولا في نسيجه السردي بدءًا من «إمام آخر الزمان» سنة 1984 حتي «أهل البحر» سنة 2008، مرورا بالروايات الآتية: «من أوراق أبي الطيب المتنبي» 1988، «الصهبة» 1990، «قلعة الجبل» 1991، «النظر إلي أسفل» 1992، «الخليج» 1993، «اعترافات سيد القرية» 1994، «زهرة الصباح» 1995، «الشاطئ الآخر» 1996، «أبوالعباس رباعية بحري» 1997، «ياقوت العرش رباعية بحري» 1997، «البوصيري رباعية بحري» 1998، «علي تمراز رباعية بحري» 1998، «بوح الأسرار» 1998، «الحياة ثانية» 1999، «المينا الشرقية» 2000، «مد البحر» 2000، «نجم وحيد في الأفق» 2000، «زمان الوصل» 2002، «ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله» 2003، «زونيه» 2004، «حكايات الفصول الأربعة» 2004، «صيد العصاري» 2004، «غواية الإسكندرية» 2005، «الجودرية» 2005، «رجال الظل» 2005، «مواسم للحنين» 2006، «كوب شاي بالحليب» 2007، «المدينة المحرمة» 2007، «البحر أمامها» 2007 . ومن هذا العرض نتبين أن محمد جبريل يصدر كل عام عملا أو اثنين أو ثلاثة، مما يدل علي غزارة إنتاجه بحيث يتفوق في ذلك علي كل مجايليه من الروائيين ومن قبلهم وبعدهم باستثناء عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، بل ربما علي أدباء العالم بأسره، والعبرة ليست بالكثرة وحدها بل بالمستوي الفني أيضا. ولم يعن محمد جبريل بتصوير كل ذرة من تراب مدينته الإسكندرية فقط، بل عني أيضا بهموم الإنسان أيا كان زمنه وموطنه، مثل روايته عن المتنبي وروايته عن الحاكم بأمر الله، فالإنسان والزمان والمكان هي ثلاثيته التي يعزف علي قيثارتها ألحانه المتنوعة، فهو الجديد دائما كماء البحر. عود علي بدء وتبقي الإسكندرية هي الأثيرة عنده، ففي رواية «أهل البحر» بجزأيها كما يقول الكاتب تصوير للحياة في حي بحري، وهي المنطقة التي تقع بين سراي رأس التين وميدان المنشية، وتعج بالبشر والأماكن والتواريخ والأحداث، وهذا الحي هو أصل الإسكندرية حيث التحمت راقودة قرية الصيادين بشبه جزيرة فاروس. ويحتضن حي بحري عشرات الأضرحة والمقامات والمساجد والزوايا التي تحمل أسماء أولياء الله الصالحين وأقطاب الصوفية الذين سمي كاتبنا الملهم عديدا من رواياته بأسمائهم، وقد عاش في هذا الحي كثير من الشعراء والأدباء والمفكرين والفنانين ورجال السياسة الذين تضمنت روايته «أهل البحر» أسماءهم وأطرافًا من سير حياتهم وحوارات من الكاتب مع أطيافهم. وقد مارس أبناء بحري الحياة بصورها الرتيبة وصورها المغايرة، فعرفوا الواقع والخيال والسحر وبركات أولياء الله ومكاشفاتهم. ولما كان تاريخ الإسكندرية ممتدا في قلب العالم القديم منذ عصر راقودة وجزيرة فاروس واتصالهما في زمن الإسكندر الأكبر حتي زماننا الحالي فقد اقتصرت رواية «أهل البحر» علي الشخصيات التي عاشت في هذا الحي منذ مطالع القرن العشرين وأثرهم في مدينة الإسكندرية وأثر الأولياء وسكان العوالم الروحية فيهم. إن رواية «أهل البحر» تمثل نوعا جديدا من الإبداع قديمه وحديثه، فهي تمزج بين العالم الروائي والسير الذاتية للأشخاص الذين تناولتهم، وبين الواقع والخيال، وهي طفرة جديدة للكاتب الكبير محمد جبريل الذي درس أعماله كثير من النقاد والباحثين، ومازال مشروعه الإبداعي ممتدا، ومضيفا الجديد إلي العالم الساحر للفن الروائي الذي نذر محمد جبريل نفسه لاكتشافه ثم الغوص في بحاره منذ توحد بحي بحري حتي الآن. وهكذا نري أن أهمية وتفرد روايات محمد جبريل ترجعان إلي هذا التوحد لا بالإسكندرية وأهلها فحسب، بل بالروح المصرية ذات الخصائص التي تميزها عن سائر الشعوب، و إن كانت تقترب من طبيعة شعوب البحر الأبيض المتوسط ذات الحضارة الضاربة في أعماق التاريخ منذ أقدم عصوره. وروايات محمد جبريل نبع ثري لاستلهام علماء النفس وعلماء الاجتماع بعض نظرياتهم منها، وقد قال عالم النفس الرائد فرويد إنه وضع بعض نظرياته من خلال قراءته للأعمال الروائية للكاتب الروسي الكبير دستويفسكي مثل «الإخوة الأعداء» و«المقامر» التي صور فيها مختلف الشخصيات والنماذج البشرية الأمر الذي يدعونا إلي مناشدة النقاد والأدباء والقراء أن يروا الشعب المصري عامة وأهل الإسكندرية خاصة من خلال روايات محمد جبريل.