التداعي الفكري حَملني إلي واحد من أجمل "الأفلام العربية التي يصُعب نسيانها.. إنه فيلم "الخبز الحاف" 2005 للمخرج الجزائري رشيد بن حاج المأخوذ عن سيرة ذاتية للكاتب المغربي الراحل محمد شكري 1935 / 2003 الرواية ترجمت إلي 38 لغة أما الفيلم الرائع المأخوذ عنها فقد تم منعه لفترة عند بداية خروجه وكان لنا الحظ أن نراه في القاهرة ضمن أنشطتها السينمائية. حين نفكر في لعنة "الفقر" الذي تناولتها عشرات الأفلام فلن تجد ما هو أكثر شراسة ودهشة من ذلك الذي واجهه محمد شكري في حياته التي سطرها في "الخبز الحاف". ولكن الفقر في هذا الفيلم البديع والمذهل ليس هو الآفة الأكثر خطورة علي بلداننا العربية ولكنه الجهل الذي يُعتبر الإبتلاء الحقيقي الذي يقصف أعمار الشعوب ويسكنها قبور التخلف والتبعية. محمد شكري مبدع رواية "الخبز الحاف" ظل حتي سن العشرين من عمره أمُياً لا يقرأ ولا يكتب وعاش في أسرة شديدة الفقر تبحث عن لقمة العيش في صفائح القمامة. ومع أب بالغ القسوة تسببت قسوته في قتل شقيقه الأصغر الأمر الذي خلق له كدمة نفسية لازمته حتي آخر أيام عمره ولم يخجل محمد شكري وهو يسرد سيرته الذاتية أن يذكر الكثير من التفاصيل الصادقة لمظاهر الفقر والتعاسة المفرطة. وقد بدأ بصيص من النور فقط عندما تعلم وهو في سن العشرين وكان ذلك أثناء محبسه في السجن. تعلم الحروف العربية علي يد سجين سياسي قام بتعليمه القراءة والكتابة. وبعد خروجه من السجن شرع في كتابة روايته هذه التي تحولت إلي فيلم يعد واحداً من أعمدة السينما العربية والرواية تكاد تقترب في روعتها الأدبية من رواية "البؤساء" للاديب الفرنسي فيكتور هيجو في رأي كثير من النقاد. في السيرة الذاتية للأديب المغربي سيرة أخري للمغرب المقهورة والمكبلة تحت نيران استعمار فرنسي واسباني. وفيها يظهر التاريخ السياسي ويطل بشراسة وفيها يتجسد جزء حزين من تاريخ الشعب المغربي يصور الجانب القبيح ويعري أمام المتفرج تفاصيل مُوغلة في الألم والقسوة للحياة الاجتماعية وللواقع البائس المعاش للإنسان المغربي في مرحلة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي وبرغم كل هذه المظاهر الشقية الغارقة في القتامة استطاع المخرج الجزائري أن يقدم لغة جمالية بديعة وإحساسا صادقا للمدن والأماكن والإنسان الذي يخضع لطبقات مركبة ونافذة من القمع والاستبداد والفقر والتخلف والبطش الاستعماري والبطش الأبوي. فضلاً عن بطش التقاليد والأعراف والتراكيب العتيقة الحاكمة. وأكثر ما يثير في هذا الفيلم جسارة المؤلف وصراحته التي جعلته لا يخفي رفضه وامتعاضه لصور الجهل والتابوهات المعوقة لآدبية الإنسان. لم يخف شيئاً من مظاهر الواقع المغربي المعاش ولم يدار وقته الشديد للسلطة الأبوية التي مورست عليه وعلي شقيقه بوحشية. ولا الوضعية المتدنية للمرأة في ظل نظام يقدس الرجل حتي وكان يعيش علي استغلال حريمه. وحتي لو تحول إلي طاغية داخل الأسرة مثله مثل الاستعمار الذي يحُكم سيطرته علي البلد. "الخبز الحاف" يقدم صورة مركبة عنيفة ومتعددة الزوايا لمعني الفقر الإنساني والمجتمعي والروحي وفظاظة الجهل والخروج عن المألوف والتدني السلوكي والطغيان في بلد تحكمه تقاليد تشكل في سطوتها سطوراً في سجنه. سجن للمرأة تتحول داخله إلي سلعة بضاعتها جسدها. سجن يستعبدها فيحولها من زوجة إلي أمََةَ مقهورة تنتحب في الظلام. سجن لأطفال يترجمون كتبهم في نوبات من العنف البدني. سجن يختزل العلاقة بين الرجل والمرأة في المتعة والجنس العنيف. سجن يعيش سكانه علي توظيف الغرائز. فالفيلم المأخوذ عن الرواية بأمانة يكسر التابوهات ويشي بالمسكوت عنه في مجتمعاتنا المحافظة المتدينة والعنيفة التي تصل إلي درجة من الوحشية في مرحلة من مراحل تطورها. "لو كان الفقر رجلا لقتلته".. و"الخبز الحاف" يجسد ذلك الفقر الجدير بالسحق ولكنه يجسد أكثر بشاعة الجهل والمجتمعات الجاهلة المحكومة بأيدولوجيات وتقاليد وتابوهات وأعراف تحكم بها الجهلاء وجماعاتهم التي تتسلل إلي كل مظاهر الحياة في بلادنا العربية.