هرم سينمائي مصري عظيم.. لم يحظ فنان وممثل عربي مثله باهتمام الشعب والقيادة.. تمر اليوم 27 مارس الذكري رقم 11 لرحيله.. هو فنان مصر المبدع.. فتي الشاشة الأسمر أو كما أطلق عليه رئيس جمهورية التمثيل.. ورئيس دولة السينما المصرية "أحمد زكي" الذي انتقل إلي جوار ربه في مثل هذا اليوم من عام 2005 بعد رحلة شاقة مع المرض .. وبعد مشوار فني كبير اشتهر خلاله بأنه الممثل ذو الألف وجه.. يقنعك تماماً في كل دور يجسده.. في كل الألوان التي قدمها علي الشاشة.. الاجتماعي والسياسي والكوميدي والوطني الذي ألهمته مصريته وحسه الوطني في سنوات نجوميته أن يلقي الضوء علي تاريخ مصر المعاصر بكل أمجاده.. ويعتبر مشروعه السينمائي الخاص بإحياء ذاكرة الأمة من خلال إلقاء الضوء علي بعض الصفحات المضيئة والبارزة في التاريخ المصري.. وهي المرحلة التي بدأها بتجسيد شخصيات تاريخية مصرية لعبت دوراً كبيراً في حياة مصر ولايزال تأثيرها قائماً حتي يومنا هذا وبعد عشرات السنين علي رحيلها.. مع أنه لا ينتمي إلي أي أحزاب سياسية.. وليس "ناصرياً" أو "ساداتياً".. فهو مصري وينتمي فقط إلي حزب الفن والحب والخير والجمال الذي أصبح أحد زعماء مملكته.. فنان من العيار الثقيل استطاع أن يصبح أحد الملوك المتوجين علي عرش السينما المصرية.. وكان يردد دائماً بأن الفنان في كل المجالات إنسان مصري.. ينتمي إلي حزب الفن.. والفن أحياناً يكون أشد معارضة للحكومة من أحزاب المعارضة ذاتها.. وضرب مثلاً ببعض أفلامه والتي أطلق من خلالها صرخات ضد كل عناصر ومدلولات الفساد في المجتمع الذي اختلط فيه الحابل بالنابل ولم يعد فيه مكان للشرفاء وخاصة في فيلم "ضد الحكومة" وايضا في أفلام: زوجة رجل مهم.. والبرئ.. كانت تتضمن انتقادات عنيفة للدولة.. وكان فيلم "البرئ" أول عمل يتنبأ بأحداث الأمن المركزي لدرجة أن صلاح جاهين أستاذ وصديق أحمد زكي قال له: "الحمد لله.. الفيلم تم عرضه قبل الأحداث.. وإلا كانوا اعتقلوك!" ومن كثرة اللغط الذي حدث حول هذا الفيلم ذهب وزير الداخلية ووزير الحربية إلي مجمع المونتاج ليشاهدا الفيلم قبل عرضه. معالي الوزير وحول فيلمه "معالي الوزير" قال أحمد زكي: لقد أحببت من خلاله الاقتراب أكثر من شخصية الوزير.. فالوزراء بشر.. والإيجابيات للوزراء كثيرة.. وهم يعملون من أجل الوطن.. وعندما نتعرض لبعض السلبيات فإن هدفنا إبراز الإيجابيات.. وأنا في هذا الفيلم لا أركز فقط علي سلوك منحرف لشخصية مسئولة.. ولكن نحاول مع بقية الفريق الذي عمل بالفيلم أن نبرز جوانب إيجابية كثيرة لوزراء مصر. ناصر 56 وأحمد زكي بطبيعته يميل إلي رصد حياة الزعماء والقادة والوزراء مثلما فعل فيلم "ناصر 56" وفيلم "أيام السادات" وذلك من موقعه كفنان ومواطن يحترم جميع قادته في محاولة لرصد الأبعاد النفسية والشخصية لهم بعيداً عن المهاترات والخلافات السياسية.. ولذلك كان مصراً.. بل كان حلمه الكبير تقديم فيلم "الضربة الجوية" العمل العظيم الذي كان لحظة فارقة في التاريخ المصري.. وبعد عناء طويل استطاع أحمد زكي أن يصل إلي هذه المكانة ويثبت أنه عبقري في الأداء التمثيلي وأن أدواره تصلح لأن تدرس في أكبر معاهد وأكاديميات الفنون. وناصر 56 هو أول أدواره الرائعة في شخصيات القادة والزعماء.. ناصر الذي فجر الثورة العظيمة في 1952 وعمل نهضة كبيرة جداً.. وتحدي القوي الاستعمارية وأمم قناة السويس وحارب أكبر القوي العسكرية في 1956 وانتصر عليها وتسبب في سقوط الأمبراطوريتين: الانجليزية والفرنسية اللتين كانتا تحتلان نصف العالم.. وبني السد العالي.. وقرر أن يجمع العالم العربي كله خلفه. أيام السادات ثم فيلم "أيام السادات" الذي يحكي تاريخ فترة خصبة من حياتنا.. وهو عمل مهم وسجل الانتصار العظيم في أكتوبر بأداء ممتاز.. فقد أحبه أحمد زكي جداً في سنوات حكمه الأولي واحترمه لما قام بثورة التصحيح.. وقضي علي مراكز القوي.. فلولا حركة 15 مايو كان بقي عندنا 15 رئيس جمهورية.. وازداد حب أحمد زكي للسادات عندما ضرب ضربته في أكتوبر عام 1973 وخدع اليهود والأمريكان واضطر العالم كله "يلف" حول نفسه! ونجح أحمد زكي في أداء دوره في هذا الفيلم الذي نال عنه وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولي. البحث عن الذات وكان السادات قبل وفاته قد اختار أحمد زكي ليقوم بدوره في مسلسل تليفزيوني عن حياته مأخوذ من كتابه "البحث عن الذات" وأبلغه مخرج المسلسل "يحيي العلمي" بذلك وقال له إن السادات اختاره ليجسد شخصيته بعد أن أعجب به في شخصية عميد الأدب العربي طه حسين في مسلسل "الأيام" وقال إن أحمد زكي شكله وشكلي.. وكان السادات قد عقد اجتماعاً معهم لكي يختاروا بطل المسلسل وكان مرشحاً للدور أسماء كثيرة ولم يكن أحمد زكي بينهم فقال لهم السادات بالنص: "لو كنتم تأخدوا رأيي.. ورأيي هذا استشاري والأمر الأخير للمخرج.. أنا أرشح ابننا أحمد زكي الذي مثل "الأيام" لأنه يشبهني".. وللأسف.. توقف مشروع المسلسل بعد اغتيال السادات عام ..1981 رحمه الله.. وكان أحمد زكي يتمني عمل هذا الفيلم لأن فترة الست سنوات من 1967 1973 التي هزمنا قبلها غدراً وضرب الغطاء الجوي لنا غدراً استطعنا بعدها في 6 سنوات فقط وفي سابقة لم تحدث في التاريخ العسكري في العالم أن نرد اعتبارنا.. كيف استطاعت القوات المسلحة انجاز ذلك؟ وكيف استطاعت قوات الطيران إعادة بناء الطيران وتوجيه ضربة جوية جبارة لإسرائيل تفتح بها المجال الجوي لكل القوات؟ هذا ما كان يريد أن يقوله في الفيلم.. كان نفسه يقدم الفيلم من خلال عيون الرئيس مبارك ورؤيته للأحداث منذ حرب 1967 وأين كان وقتذاك ودوره العظيم في حرب أكتوبر. البطل وذكر أحمد زكي أنه لا يستطيع أن يقول عن فيلم "البطل" الذي قدمته السينما ليكون معبراً عن بطل أكتوبر وأن مجموعة الأعمال التي قدمت عن انتصار أكتوبر كانت تعبر فقط عن بعض الملامح من هنا وهناك وليست بالقوة المطلوبة ونفدت بسرعة ونشكر لأصحابها شرف المحاولة. الماكياج وأكد أحمد زكي تعقيباً علي كلمات الإشادة بتمثيله بأن الماكياج ليس هو سبب نجاحه.. كما يظن البعض.. في أفلام السادات وناصر وحليم.. لأن صناعة الماكياج تأخذ لأول مرة خمس دقائق يقوم فيها الماكيير بتقريب الملامح الشكلية من الشخصية.. وفي الشخصيات غير المعروفة يكون علي الممثل أن يخلق الشكل الخارجي.. لكن عندما تكون الشخصية معروفة لابد أن نقترب قدر الإمكان من شكلها الخارجي مثل: "شارب" عبدالناصر وأنفه.. و"صلعة السادات" لكن الشكل الخارجي بدون مشاعر داخلية قوية يبدو ميتاً بلا ملامح.. وإلا كنت أحضر شخصاً مشابهاً تماماً.. وهذا موجود في الواقع. التشخيص الجميع أشاد بعظمة أحمد زكي في تقمص الشخصيات التاريخية وأثبت أن له قدرة خرافية علي تقمص الشخصية التي يؤديها والقبض علي تفاصيل صغيرة لا تنفرط منه أبداً.. ولذلك كان يكره التمثيل في الإذاعة لأنه يستبعد الأداء بتفاصيل الوجه وهو الذي يهتم بها.. فكل شخصية يؤديها تستنطقه وتحفزه أن يظهر ما بداخله من أحاسيس.. ولذلك عندما نشاهده في "ناصر" و"السادات" تدهشك قدرته علي التقمص تلك التي تظهر في نظرة عينيه وانفعالات وجهه تذكرك بأدائه الرائع عندما قدم شخصية طه حسين.. فقد امتلك ألف وجه واحترف تقديم الشخصيات المختلفة المتناقضة.. وقد قالت عنه ال C.N.N أن ممثلاً من دول العالم الثالث نجح في تجسيد شخصية زعيمين وصدقه المتفرج! وبالنسبة لتخصصه في تقديم شخصيات عامة من ناصر إلي السادات إلي العندليب.. لأنها كما قال شخصيات ثرية تستحق وقفة تأمل عميقة جداً لأنها أثرت في المجتمع المصري والعربي بشكل كبير.. وسعي لتقديمها من خلال السينما لإعجابه الشديد بها وبتاريخها.. وهي تجذبه إليها بعنف.. وهناك شخصيات كثيرة كان يتمني أن يطول به العمر لتقديمها وليس فقط الشخصيات التي قدمها.. وهناك مواقف في حياة هؤلاء لابد من تسجيلها بصدق للأجيال القادمة.. مثل يوم وضع فيه الزعيم عبدالناصر حياته وحياة الأمة في قرار.. ورحلة كفاح أنور السادات.. ومشوار العندليب.. وكان أحمد زكي لا يقدم سوي الشخصيات التي تستفزه جداً من داخله.. سواء كانت هذه الشخصيات رئيساً أو وزيراً أو حتي خفيراً وبواباً. وعندما أجمع النقاد علي أن السينما حتي الآن لم تقدم فيلماً عن أكتوبر.. علق أحمد زكي بأنه من الممكن أن نقدم مليون فيلم عن أكتوبر.. لكن القضية في كيفية التناول.. أكتوبر كان بمثابة السيمفونية التي عزفت من كل القوات المسلحة فرداً فرداً.. ولابد من رصد مشاعر هؤلاء الناس. وعن فيلم "العمر لحظة" وجه أحمد زكي الشكر للفنانة ماجدة الصباحي للمجهود وشرف المحاولة لكنها في رأيه محاولة لم تعط سوي لحظة إنسانية ولم تعبر عن أكتوبر بمعناه الحقيقي! وأعرب أحمد زكي عن سعادته لأن فيلمه "أيام السادات" نقل جزءاً من الخداع الاستراتيجي لملحمة أكتوبر.. وكان يتمني أن يكمل مشروعه عن الضربة الجوية لكن المرض لم يمهله.. وانتهي مشواره وهو يجسد رمزاً آخر من رموزنا الفنية الخالدة.. العندليب عبدالحليم حافظ في الفيلم الذي يحمل اسم "حليم". كان أحمد زكي مهموماً بالقضية الفلسطينية ايضا.. وظل يفكر طويلاً في طريقة يخدمها بها من خلال الفن! رحم الله "أحمد زكي" أحد القلائل الذين تجاوز دورهم حدود فن "التشخيص" وأصبح جزءاً من وجدان الوطن وذاكرة الأجيال بفضل أدوار سينمائية ساهمت في إحياء ذاكرة الأمة وإلقاء الضوء علي بعض صفحات التاريخ المصري.. كما أن أعماله التي اقتربت من هموم المواطن الاجتماعية والسياسية لا تقل أهمية عن الأعمال التاريخية.. ويعتبر أحد أهم الممثلين المصريين والعرب بفضل تميزه الاستثنائي في الأداء.. وهو أحد القلائل الذين لهم مشروع فني يعبر فيه عن الإنسان وهمومه ومشاكله وأحزانه وأفراحه وأحلامه.