لباشلار مصطلح الطوبوفيليا Topophilia . ومعناه محبة المكان. ثمة علاقة خاصة تربطني بالكثير من الأماكن في بحري. أسواق وشوارع وجوامع وحدائق وأضرحة ومقامات. فضلاً عن البحر الذي يطل عليه بحري من جوانب ثلاثة. وبالطبع فإن بحري - عندي - ليس مجرد المكان. إنه النشأة والذكريات واختزان ما يتصل بالحنين. ما حاولت استعادته. وتوظيفه. في كتاباتي السردية. بحري هي مدينتي. هو المدينة التي اختزلها وجداني. يجاور أحياء أخري. اعبرها. لكن بحري - حتي لو ابتعدت عنه - يحيا في داخلي. لا مكان يزاحم بحري في نفسي. هو مغاير. متفرد. يحمل خصائص ومقومات يصعب ان أجدها في موضع آخر. اي روح يكمن في بحري؟ ما الذي أحبه فيه؟ ما الذي يجذبني إليه؟ لعلي أجد في الحي امتداداً لبيتنا المطل علي أحد شوارعه. أتبادل السلام والتحية. اتردد علي جوامعه ودكاكينه وساحاته وأسواقه. أعرف الكثير من ناسه. الوجوه الطارئة. أو الحديثة العهد بالإقامة. البيئة - رغم اتساع الحي. بل ورغم كثافته السكانية - محدودة. ومحددة. الطبقات من الوسطي فأدني. المهن المتصلة بحياة البحر. في السيالة والأنفوشي ورأس التين. الصيادين وغازلي الشباك وصغار الحرفيين والتجار. ليس في بحري شخصية استثنائية. ومعتزة بخصيصة ما. ناس عاديون. يمارسون مهناً. يحفظ عائدها حياتهم. تغيب - إلي حد الندرة - أمراض الإنتهازية والوصولية والتقافز فوق أكتاف الآخرين. المسافة من انحناءة الطريق الي المينا الشرقية. وموازته في شارع محمد كريم "التتويج". والامتدادات حتي المشنية مهن تجارية وحرة. أو ينتسبون الي الكادر الوظيفي في مراتب مختلفة. الهجرة من الحي وإليه قليلة. أو انها معدومة. فالسحن تبدو مألوفة. حتي السمات المعمارية لبنايات الحي تشهد تغيرا بطيئا. وغير ملموس. ما عدا ميدان أبوالعباس الذي تضخمت عمارته بزعم توسيعه. فإن البيت الذي يلحقه الهدم يبني علي المساحة نفسها ببيت جديد. حتي الشوارع القديمة: الموازني والحجاري والمسافرخانة وجودة وأبو وردة وصفر باشا وفرنسا وغيرها. لا تزال علي حالها. بل إن تسميات الشوارع لم تتبدل علي ألسنة الناس: سمي شارع الميدان تعبيراً عن الزحام الذي تصنعه حركة البيع والشراء. ثم اطلقت الدولة علي الشارع اسم محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر الأسبق. بعد اغتياله في 1948. لكن التسمية الأولي ظلت كما هي. وظل اسم إسماعيل صبري علي الشارع الذي انشئ في أوائل الثلاثينيات. وكان الرجل محافظاً للمدينة. وعلي الرغم من ان الزعيم محمد كريم هو الاسم الذي يطلق الآن - رسمياً - علي شارع التتويج "نسبة الي تتويج الملك فاروق ملكاً علي مصر في 1937". فإن التسمية القديمة هي التي يحرص عليها الناس. وشارع رأس التين لأنه يمضي الي سراي رأس التين. والموازيني لأن جامع ولي الله علي يمين الشارع في الطريق الي أبوالعباس. أحرص - في زياراتي إلي بحري - ان اخترق الشوارع الجانبية والأزقة والحارات. أطيل التوقف والتأمل. أدرس علاقة المكان بالتاريخ السكندري. بالبشر الذين يعيشون فيه. اتأمل حتي ما قد يبدو هامشياً . العكس هو ما أفعله حين تدفعني الظروف للتردد علي أحياء الإسكندرية الأخري. أكتفي بالسير في الشوارع الرئيسة. لا أحاول الميل - إلا لضرورة - في الشوارع الجانبية. سيري في بحري للتأمل واستعادة الذكريات. أما سيري في الأحياء الأخري فلعمل ما أسعي لإنجازه. بحري - في لغة أهل الإسكندرية - هو البلد. يقال: أنا نازل البلد. المعني انه سيدهب إلي بحري. هل لأنه الحي الأقدم في المدينة؟ هل لأنه الموضع الأصل قبل أن تنشأ الإسكندرية. وتتسع. وتمتد أحياؤها. وتأخذ صورتها الحالية؟ إذا نزلت البلد - بحري فإنك - غالبا - سترحل عنه وفي وجدانك بصمات يصعب أن تزول.