إذا كان جارثيا ماركيث قد اخترع قرية هي ماكوندو. وجعلها نبضاً للعديد من أعماله. فان البحر والصيادين والبلانسات والأنواء وحلقة السمك ولقمة العيش الصعبة.. ذلك كله هو الذي دفعني للكتابة عن بحري. الحي الذي ولدت فيه. ووعيت- منذ طفولتي- علي المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد التي تسم الحي بخصائص مغايرة. الاسكندرية التي أعرفها. هي التي تشغل المساحة من سراي رأس التين إلي ميدان المنشية. جاوزت المساحة المحددة. والمحدودة. إلي ميادين وشوارع وبنايات. سعياً للدراسة. أو لانجاز اعمال أو للفسحة. أو حتي للتردد علي دور السينما في المنطقة المحيطة بمحطة الرمل. ظل بحري هو الاسكندرية عندي. حتي بعد أن تركت المدينة إلي القاهرة. أصل بالقطار في الصباح. أمضي من ميدان المحطة إلي شارع شريف- اسمه الان صلاح سالم- ثم إلي شارع فرنسا. هو الآن شارع الشهيد مصطفي حافظ حتي تقاطع الشارع مع شارعي اسماعيل صبري ورأس التين. هذه هي نقطة الانطلاق للحي الذي أحبه. وأحاول التعبير عن مظاهر الحياة فيه. حين دفع لي الصديق الروائي الراحل عبدالرحمن درويش بهذه الرواية. تعرفت إلي إسكندرية أخري. خارج بحري. تختلف عن القليل الذي انطبع في ذاكرتي أثناء ترددي عليها. وتختلف كذلك عن إسكندرية أصدقائي من المبدعين السكندريين. عبدالرحمن درويش يهبنا في روايته بقايا الاسكندرية الكوزموباليتينية اللحظات الاخيرة في أفولها اختلفت- إلي حد التضاد مع اسكندرية لورانس داريل في تقديره للاسكندرية الكوزموبوليتانية. مقابلاً لتعاطفي مع اسكندرية ناسها من أحياء الاسكندرية الوطنية. مع ذلك. فإن الاجانب لهم موضعهم- ما يزال- في الذاكرة. يصعب ان اغفله أو أتناساه. لكن الوجوه التي قدمها عبدالرحمن درويش من الجبل وجوه وطنية في الدرجة الاولي. وجوه لاتنتمي إلي الجبل فقط. وإنما تنتسب إلي الاسكندرية بعامة. وأحيائها الشعبية بخاصة. ثمة المظاهرات ضد الاحتلال والحكومة القائمة وتشكيلات الاحزاب ودور السينما والمسارح والطائرات الورقية وشكوكو بقزازة وليالي رمضان والمقاهي وقبائل الصعايدة. وثمة الطالب والطفل والملك والضابط والكوديا وبائع المخدرات والبلطجي والمومس والاجانب الذين ظلوا يعتزون- إلي أن غادروا البلاد- بلانتساب إلي البيئة المصرية. عبدالرحمن درويش قدم في لوحاته الجبلية ما لم أكن أعرفه. ولا تصورت انه بعض صور الحياة في الاسكندرية. قد نرفض المظاهر السلبية المتناثرة في اللوحات. لكننا نتأمل طرافتها. ونعجب بقدرة الفنان علي التقاط التفاصيل الصغيرة. والاجانب بعد رئيسي في لوحات عبدالرحمن درويش. كانت أعداد الاجانب محدودة في بحري. والغالبية كانت تحيا في العطارين والرمل ومناطق أخري في الاسكندرية وهي المناطق التي سلط عليها الكاتب عدسته. فالتقطت الكثير مما كنت أعرفه. أو تغيب ملامحه. لم أكن أعرف- مثلاً- أن موضع نقطة شريف الحالية كان قسماً للشرطة الانجليزية زمن الاحتلال وأن كلمة "البياصة" تحريف للكلمة الايطالية بياتسا. وأن مدرسة رأس التين في تسمية البعض "المدرسة الطلياني" نسبة إلي ملاكها الاصليين حيث كانت مدرسة ايطالية صودرت في أثناء الحرب. ونقلت إليها مدرسة رأس التين من حي بحري. وأجاد عبدالرحمن درويش تقديم حياة الغجر. وتأثيراتهم المؤكدة في الحياة السكندرية. أدين لهذه الرواية بفضل التعرف إلي أماكن لم تتح لي الظروف أن أتردد عليها. راقني أنها ليست مجرد بنايات وطرق. لكنها حياة تنبض بالمغاير من الشخصيات والاحداث والملامح والقسمات. وتلتقط المنمنمات التي قد لا يفطن إليها من ألف المكان. أرجو أن تجد فيها ما أحسست به شخصياً من متعة التعرف إلي المكان السكندري. ذلك الذي ظللت اتصور أني أعرفه جيداً. ثم طرحت لوحات عبدالرحمن درويش آفاقاً تماثل امتدادات آفاق البحر.