حلمي الدائم منذ أحببت الكتابة أن أكتب عن الإسكندرية. عن حي بحري بخاصة. حدثتك في مقدمة كتابي "حكايات عن جزيرة فاروس" عن المساحة التي تبدأ بقصر رأس التين إلي ميدان المنشية. اسمها الرسمي حي الجمرك. أو قسم الجمرك. أما التسمية التي اعتاد الناس نطقها فهي: بحري تشمل الكثير من الميادين والشوارع والحارات والأزقة. بالإضافة إلي الروحانية الممثلة في الجوامع والزوايا وأضرحة أولياء الله ومقاماتهم والطرق الصوفية والموالد والأذكار. ما يصح انتسابه إلي مدينة واسعة. فإنها تضم العديد من شركات النقل وتخزين واستيراد وتصدير وتفريغ. للسفن. وثمة فئات يرتبط عملها بالبحر الذي تطل عليه المنطقة من ثلاث جهات. كالحمالين والصيادين والبحارة والعاملين في الدائرة الجمركية. ودكاكين بيع أدوات الصيد. وتجار الأدوية البحرية. البحر وصيادو السيالة وحلقة السمك وأولياء الله. حياة واحدة. عائلة واحدة. وأحيانا. فإن الخاطر يلح حين يمر الأوتوبيس أو المترو أمام محطة القاهرة أن أغادر مكاني وأتجه الي القطار. فأسافر إلي الإسكندرية الحبيبة التي أتوق للقائها كلما لاحت فرصة. بحري ليس هو الحي الذي عشت فيه أعوام الطفولة والنشأة ومطالع الشباب. عندي هو الذكريات. هو الجوامع والمساجد والزوايا والأضرحة والميدان الواسع قبالة أبي العباس. قبل أن تبتلعه العشوائية التي تعاون في تحقيقها محافظ سابق وعدد من رجال الأعمال. بحري هو سوق العيد الذي تلاشت ملامحه بعد أن حظرت التعليمات وجوده. وهو أبواب الجمرك المفتوحة دون تصاريح دخول. ولا قوائم ممنوعين. وهو ما استقر في داخلي من تعاملات البشر والمعتقدات والعادات والتقاليد والعبارات والمفردات والحواديت الصغيرة التي تركت تأثيرات في النفس. وربما تركت ندوبا علي الجسد. غاب عن بحري علماء دين وتجار وفتوات وشيوخ صيادين. هم الذين منحوا بحري زمنه الجميل. أذكر درس المغرب للشيخ عبد الحفيظ إمام جامع سيدي علي تمراز. ووقفة أم البحرية عصمت محسن في شرفة فيللتها المطلة علي سراي رأس التين. والشيخ أحمد صاحب الكتاب في شارع فرنسا. أمضيت فيه عاما أو أكثر من طفولتي. والرشيدي بائع المشروبات. وعم أحمد الفكهاني. والطيبين بائع البسبوسة. مع ذلك. فإن بحري عندي ليس مجرد البحر والشاطيء والجوامع والميادين والشوارع والبشر. إنه كائن له قسمات وملامح وذكريات وحكايات. حتي الجدران والبيوت والنوافذ تمثل في داخلي ذاكرة أحيا معها. وبها. أمام البنايات الجديدة. الأسمنت. والنوافذ الزجاجية الضيقة. والطوابق القصيرة. وغياب النقوش والزخارف والمقرنصات حتي لو تشوهت. أو تساقطت! يغيب إحساسي بالألفة والحميمية والدفء يتناهي رفع الأذان من موضع قريب. داخل مصر وخارجها. أستعيد صورة المؤذن في صعوده درجات السلم الحلزوني لجامع علي تمراز. يستقر في وقفته علي البسطة الأخيرة. الصغيرة. ويرفع الأذان. هذه عندي هي صورة المؤذن باختلاف المواضع التي يرفع فيها كلمات الأذان. بما لكل ذلك في نفسي من مكانة. لكثرة ما استمعت الي صوت الأمواج وهي ترتطم بصخور الشاطيء في امتداد الميناء الشرقية. فقد أصبح الصوت ملازما لي في رحلاتي خارج الإسكندرية. أستعيده. فيعيدني الي مدينتي. وإلي البحر والبلانسات وصيد الجرافة وحلقة السمك والسلسلة ومتحف الأحياء المائية وقايتباي وحاجز الأمواج في مدي الأفق.