فيلم "العائد" the revenant المرشح لدستة من جوائز الأوسكار والمعروض حاليا في القاهرة عمل ممتع فعلاً جدير بالمشاهدة. وتجربة صعبة تنطوي علي قيم خالدة ترتبط بالصراع الأزلي للانسان من أجل البقاء.. صراع مع الطبيعة والنفس البشرية بنوازعها الشريرة أمام التحديات المطروحة في رحلة البقاء. الفيلم مستوحي من أحداث حقيقية كما تقول أوراق الدعاية إنه مثل فيلم في "أعماق البحر" الذي شاهدناه منذ أسابيع فالاثنان يستحضران نفس الفترة التاريخية: الربع الأول من القرن التاسع عشر.. والعملان مقتبسان بتصرف من أعمال أدبية.. والأحداث الملهمة في العملين تجري وقائعها في عمق الطبيعة ووسط أخطار رهيبة محدقة بالبطل. الأول تدور وقائعه في أعالي البحار والصراع الخطير يقع بين "الحوت" والانسان.. وفي العمل الثاني "العائد" بين الانسان و "الدب" في الغابات الثلجية وبين الانسان وأخيه الانسان. والعملان يشدان المتفرج إلي تجارب خيالية مذهلة ومضنية والمحرك الرئيسي في العملين غريزة الانتقام.. الثأر.. فالحوت العملاق يفتك بصياديه وفي العمل الثاني يصارع الانسان ويستدعي "عملقته" من أجل أن يثار من قاتل ابنه. ويواجه في رحلته أنياب ومخالب دب يترك بصماته القاتلة في عنقه وعلي ظهره. والعملان يرسمان أمام المتفرج تجربة مشاهدة صعبة ويضعه وسط أحداث فريدة مرة في "البحر" ووسط الأمواج العالية وفي ظروف فريدة منذرة وأخري وسط غابات لا يظهر منها غير اللون الأبيض الثلجي فوق الأرض وعلي الأشجار وفوق الصخور. تجربة بصرية ينقلها المصور ايمانويل ليوبزكس المبدع بزخم بصري تشكيلي مثير. ويصممها المخرج المكسيكي اليخاندرو بأبعاد ملحمية شكلاً ومضمونا وسط طبيعة قاسية جدا معادية للانسان ومن دون تخفيف من ثقل وقعها الشعوري. هذا الحيوان.. بغريزته والإنسان بعقله وجبروته وفي "العائد" تتابع قصة البطل المضنية المشحونة بالأخطار في كل شبر مع ممثل مثل ليوناردو كابريو الذي يعتبر أداؤه الناضج بمثابة درس بليغ في كيفية استخدام المهارات التمثيلية في إثارة الحواس وفي الايحاء بالمعاناة الشديدة. معاناة الجوع والعطش والخطر الداهم من المجهول والموت برداً واليأس من النجاة والاستعداد- رغم انعدام الأمل- للصراع لتجنب الهزيمة بالموت. إنه فن الأداء التمثيلي الجدير بالتأمل والاحترام.. الأداء "المعدي" إن صح التعبير الذي ينقل اليك الشعور بالمعاناة وبالوجل وأنت تتابع البطل المأزوم وهو يزحف علي بطنه جريحا ومذبوحا فوق طبقات من الثلج الأبيض ووسط غابات من سيقان الأشجار الملفوفة بالجليد. دي كابريو يأسرك ويحبس أنفاسك وأنت تتابع رحلته المستحيلة للحاق بمجموعة الرفاق الذين تركوه للموت. والمخرج المبدع ينقلك من مشهد إلي آخر وسط البيئة الثلجية بواقعية وإيهام بالمصداقية حتي في المشاهد الخاصة بالهجوم الوحشي بين هيوجلاس "دي كابريو" وبين "الدب" الذي يؤدي دوره ممثل متخصص في أداء الحركات الخطيرة "جلن أنيس" وبمساعدة الكمبيوتر يكتسب الصراع القدرة علي الايهام بأن الدب حقيقي وأن ما جري للمغامر المقاتل من اصابات خطيرة قد تؤدي إلي نهايته فعلا فتتوحد معه! المخرج المكسيكي اليخاندرو جونزاليس إيناريتو وهو من المخرجين المبدعين الذين يملكون حسا بصريا مدهشا وقدرة علي خلق الايقاع ونسج الأحداث برهافة ورغم أفلامه القليلة ومنها "بيردمان" و "بيتوفل" و "بابل" و "21 جرام" إلا أن كل عمل من هذه الأعمال يعتبر ضمن الروائع السينمائية الممتعة فعلا في السنوات الأخيرة وفي هذا الفيلم يشيد ملحمة خيالية بصرية جميلة وموحية يعززها ويضاعف تأثيرها بطلها الممثل دي كابريو. الفيلم يضعك وسط ألبوم فريد من التابلوهات الطبيعية الخاطفة ويجعلنا ندرك حجم الامكانيات المتاحة انتاجيا لعمل ضخم وكذلك قدرة التكنولوجيا علي صناعة الصورة وتوليد الحركات الخطيرة والايحاءات القادرة علي إضفاء المصداقية. وامكانيات الكاميرا مع فنان مبدع مثل المصور الذي لا يقل اسهامه في هذا العمل عن اسهامات البطل الرئيسي والمخرج الفذ.. المصور مرشح للمرة الثالثة لجائزة الاوسكار. بعد أيام قد يتسلم الثلاثة: البطل والمخرج والمصور "التمثال" الأشهر في مجال صناعة السينما.. وهي جائزة مستحقة فعلا للثلاثة فقد استطاعوا أن يأسرونا بالتفوق الفني الرائع والجهد الجهيد الذي يعيشه الفنان المبدع للوصول إلي الكمال. وأن يضعونا وسط تجربة من المعاناة التي يواجهها الانسان الفرد من أجل البقاء ومن أجل أن يكون نداً لطبيعة معادية ومبتكرا لامكانيات نجاته من هلاك محقق. مشاهد استخراج احشاء الجواد المقتول لكي يتقي هيوجلاس ضربات الصقيع قبل أن تتجمد أعضاؤه والدخول إلي تجويف بطن الحيوان من المشاهد المبتكرة والمثيرة للدهشة. إذن كيف يبتكر الفنان ألبوماً مفرطاً في التنوع والجمال إلي حد الذهول وباستخدام لغة الكاميرا وإمكانياتها وهو يغطي هذه المساحلة الهائلة من الطبيعة وهذا التنوع من الشخصيات والإصرار علي إشاعة الإحساس بالمكان و بالحكاية الفريدة التي تدور أحداثها في عام 1820 بطل من سكان الأطراف ينتمي إلي قبيلة من المقاتلين تتفرق بهم السبل في متاهة لا نهائية وسط درجة حرارة تصل إلي عشرين تحت الصفر؟ الاجابة تجدها في فيلم يمنح للسينما قدرها الفني والجمالي ولغتها العالمية التي تستحقها.