قبل نهاية العام الماضي بأيام قليلة وتحديدا في اسبوع الكريسماس عرض فيلم «العائد» «the revenant» علي استحياء لأسبوع واحد وفي دور عرض محدودة ليأخذ حظه في سباق الأوسكار باعتباره أحد أفلام العام، ثم تم رفعه فورا ليعرض في الموعد المحدد له سلفا 7 يناير ويبدو وكأنه علي موعد مع الذهب والجوائز فبعد عرضه بيومين اختارته رابطة الصحفيين الأجانب كأفضل فيلم لعام 2015 ليفوز بالكرة الذهبية هو ومخرجه أليخاندرو جونزاليس إيناريتو و نجمه ليوناردو دي كابريو رغم أن «الفيلم» كان صاحب أقل ترشيحات للكرات الذهبية لكنه تفوق علي منافسيه في اللحظات الأخيرة! و بعدها بيومين آخرين كان قد أثبت تفوقه وسيطرته علي الجوائز باقتناصه اثني عشر ترشيحا في جوائز الأوسكار التي أعلنت الخميس الماضي، واعتقد سيكون له حظ وافر في معظمها وأصبح هو الأقرب للتتويج كفيلم العام بلا منازع. الطريف حقا أن الفيلم لم يحقق إيرادات تذكر عند عرضه في الكريسماس بل ولم يحظ بإعجاب جماهيري وفسر البعض حالة النفور من الفيلم بعرضه في توقيت غير مناسب لكونه فترة اجازات واعياد ربما لا تناسب فيلما مأساويا مهما كانت درجة روعته فللجمهور خيارات اخري في فترة الاعياد، فضلا عن المنافسة الشرسة من فيلم جماهيري كحرب النجوم الذي استأثر بالايرادات كلها في أسابيعه الأولي ولم يترك شيئا لمنافسيه وتلك حقيقة ليس فيها أي مبالغة. وبعد رفعه من دور العرض في نهاية ديسمبر كان الفيلم بكل أسف قد تمت قرصنته وتداوله كثيرون علي الانترنت مما زاد الأمر سوءا ولم يحقق إيرادات في بداية عرضه الثاني 7 يناير.. لكن بعدها بأيام قليلة ساهم فوزه بالجولدن جلوب في تحريك المياه الراكدة ليحظي الفيلم بإقبال جماهيري ويحقق طفرة في إيراداته «من 67 ألف دولار في 7 يناير و49 الف دولار في 8 يناير إلي 14 مليونا في 10 يناير، تصاعدت الايرادات متأثرة بالجوائز حتي تجاوزت 90 مليونا في الاسبوعين الماضيين». الفيلم يروي مأساة حقيقية من اوائل القرن التاسع عشر لهيو جلاس صائد الحيوانات المتوحشة الذي يدفع ثمن غروره بقوته، وشهوته للمال ولغزو الطبيعة وتعديه علي مملكة الحيوانات لاصطيادها ونزع فرائها الثمين، كما الحال تماما مع السكان الأصليين الذين هاجمهم بلا رحمة ! ديكابريو وأداء عبقري يجسد شخصية هيو جلاس ليوناردو ديكابريو الذي يبدو منذ ظهوره الأول بالفيلم عاقدا العزم علي الفوز بالأوسكار بعد ترشحه لها خمس مرات سابقا دون جدوي، يبدو ليو مختلفا شكلا وأداء، يسخر كل ادواته بشكل مذهل ليضفي علي الشخصية واقعية فلا تدرك خيطا فاصلا بينه وبين جلاس الحقيقي، نظرات عينيه وتعبيرات وجهه، حركة أسنانه وأنفه اللاإرادية، قفزته وحركات جسده في صراعه مع الدب، صرخاته التي هزت الطبيعة وقاعة العرض ونبرات صوته وأنفاسه المسموعة حين يفقد ابنه الذي يغدر به انسان فاق في وحشيته الحيوانات المفترسة، تحوله كالوحش الضاري وصرخاته وصوته المخيف وقسوة ملامحه وشراسة نظراته وهو ينتقم بلا رحمة.. كل تاريخ ليو إلي جنب وأداؤه في هذا الفيلم تاريخ آخر يصنعه، ومن يدري ربما يحالفه اجتهاده وحقه وحظه ليفوز بالأوسكار وهو الأقرب لها بلا شك. صراع للبقاء والانتقام ! يبدأ الفيلم باستعراض امكانات المخرج الفائز بالأوسكار العام الماضي عن « بيردمان» بمشهد رائع لليو الذي يعمل لحساب شركة أمريكية لتجارة الفراء يقتحم غابات بغرب أمريكا ومعه مجموعة من الصيادين يقاومهم السكان الأصليون دفاعا عن أرضهم فيخوضون معركة شرسة معهم برع المخرج في تصوير وحشية الانسان الذي يهاجم بني جنسه بلا رحمة لندرك كيف ستكون المواجهة مع الحيوان ! الإيقاع سريع لاهث، فجأة نجد ليو في مواجهة أشد شراسة مع دب ضخم، وفي مشهد طويل رائع تكنيكيا يدور صراع رهيب بينه وبين الدب الذي يبدو كما لو كان ينتقم لعالمه من ذلك الصياد المعتدي فيصيبه حتي يكاد يشرف علي الموت ويظنه أصدقاؤه يحتضر فعلا فيتركون معه فيتزجيرالد «توم هاردي» وبرديجر «ويل بولتر» ليقوما بدفنه حين يموت في حين يضطرون هم للهرب من مواجهة السكان الأصليين الذين يبحثون عنهم لينتقموا منهم جميعا بعدما دمروا أرضهم وقتلوا حيواناتهم.. لكن فيتزجيرالد الحاقد علي جلاس يخونه فيقتل ابنه الصغير بعنف وشراسة ووحشية تفوق وحشية الحيوان المفترس، ويدفن جلاس حيا بعدما يهدد برديجر بقتله هو الآخر، ثم يأخذه ويرحلان بحثا عن مجموعتهم تاركين جلاس مدفونا، لكنه يقاوم وبغريزة حب الحياة والرغبة في البقاء ينهض جلاس ليستر نفسه بجلد الدب ويتحول بوحشية للتغلب علي قسوة الطبيعة لينجو من أجل الانتقام لابنه.. ويبدأ جلاس رحلة طويلة يصارع فيها الطبيعة من أجل البقاء حيا وهدفه الوصول لقاتل ابنه الذي كان صديقه، إلي أن يتحقق له ما يريد ورغم النهاية المأساوية إلا أنها تبدو من أروع مشاهد الفيلم.. غير أن أداء توم هاردي كان مبالغا فيه يعود بنا للخلف عشرات السنين وهو أضعف ما في الفيلم. فيلم للتاريخ « العائد» تباري فيه كل طاقمه ليصنعوا فيلما للتاريخ وليس للجوائز فقط، في مقدمتهم مدير التصوير إيمانويل لوبيزكي الفائز بالاوسكار العام الماضي عن « بيردمان « أيضا ويبدو أنه يشكل مع المخرج ثنائيا متناغما وقد نجحا معا في تصوير جمال الطبيعة وبكارتها وقسوتها أيضا وصراعها المتبادل مع الانسان في لوحات رائعة، واعتقد أنه ربما يكون اوسكار أفضل تصوير من نصيب لوبيزكي هذا العام أيضا، ومن يدري ربما تتكرر الصورة مرة أخري لتجمع إيناريتو مخرجا ولوبيزكي مصورا في حفل الأوسكار الشهر القادم يحملان تمثالي الفارس الذهبي لأفضل مخرج ومصور وتمثال أفضل فيلم أيضا، وأتمني أن يكون جوارهما ليوناردو ديكابريو حاملا أول اوسكار في حياته وهي جائزة مستحقة عن دور لم تشهده السينما منذ سنوات بعيدة بذل فيه ليو مجهودا خارقا بعدما رفض تماما وجود دوبلير له حتي في المشاهد والظروف شديدة الصعوبة !