ونحن صغار. كنا نترك بيوتنا. في أيدينا الفوانيس الملونة. ليست فوانيس هذه الأيام البلاستيكية بلمبة البطارية الصغيرة. وإنما فوانيس من الصفيح. تتراقص فيها شمعة بحق وحقيق. يرافق تراقصها غناؤنا لما كنا نستمع إليه من أغنيات رمضان. مثل وحوي يا وحوي للمطرب الراحل أحمد عبدالقادر. أو رمضان جانا لمحمد عبدالمطلب. وغيرها من أغنيات شهر رمضان. فإذا صادفنا دكان. تعالت أصواتنا بالقول: الدكان ده كله عمار.. وصاحبه ربنا يغنيه. يهبنا صاحب الدكان مليماً أو مليمين مبلغ لا بأس به بعملة ذلك الزمان! فنكرر القول: الدكان ده كله عمار.. وصاحبه ربنا يغنيه. قد يطردنا صاحب الدكان. أو يلعن سنسفيل آبائنا. أو يقذفنا بما في يده. نهتف ونحن نجري: الدكان ده كله خرب.. وصاحبه ربنا يعميه. نزهق من حمل الفوانيس. نكومها في أي موضع. ثم تبدأ جولتنا في شوارع بحري وحواريه. نتعرف إلي مظاهر الاحتفال برمضان. ثمة المرسي أبوالعباس. أو سلطان الاسكندرية كما يلقبه السكندريون. من حوله جوامع أولياء الله: البوصيري وياقوت العرش ونصر الدين وعبدالرحمن وعلي تمراز. وتتناثر في شوارع الحي وحواريه وأزقته مقامات وأضرحة لأولياء آخرين. فتتشكل صورة يصعب أن نجدها في أي موضع آخر. داخل الاسكندرية أو خارجها. يضيف إلي اكتمال الصورة ما يشغي به الحي علي امتداد العام من موالد وحلقات ذكر وخيام صوفية وأكشاك ختان. والتقاء الأذان من المآذن المتقاربة في مواعيد الصلاة الخمس وأهازيج السحر. والتواحيش "لشهر رمضان. وتختلف عن التواشيح". وتذكير الدراويش للمؤمنين بقرب صلاة الفجر. أصارحك أن الصورة لم يطرأ عليها تغير ملموس ببدء الإرسال التليفزيوني. ظلت سهرات رمضان بأبعادها الروحية والترفيهية علي عافيتها وتألقها. ما بدل الصورة إلي حد كبير ذلك البناء الخرساني الضخم الذي أقيم في قلب ميدان أبي العباس. نتيجة صفقة غابت حقيقتها بين محافظ الاسكندرية السابق وعدد من رجال الأعمال. تحول الميدان إلي مؤسسات تجارية واقتصادية ومطاعم ودكاكين للبازار وشرائط الفيديو والكاسيت. أصبح سوق العيد المظهر الأهم لسهرات رمضان مجرد مواضع متناثرة فيما تبقي من الميدان. وتقلصت السرادقات والخيام. وغابت الجولات التي كانت تنطلق من باب جامع أبوالعباس إلي أحياء الاسكندرية الأخري. رمضان زمان ذكريات جميلة في وجدان جيل الآباء. وعلي جيل أطفالنا الحالي أن يقنع ببرامج الإذاعة والتليفزيون. وبفوانيس البلاستيك. يحملونها وهم يرددون الأغنية المتوارثة من زمن بعيد: حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حالو.. فك الكيس وأدينا بقشيش.. لنروح ما نجيش.. يا حالو.