سأحدثك عن ثقافة العناوين أو السندوتش أو التيكاواي.. سمها ما شئت.. لكنها تحولت في حياتنا إلي ما يشبه الظاهرة. ثمة من يجلسون إلي المثقفين يستمعون إلي آرائهم فيما قرءوا ويلتقطون عناوين كتب وأسماء أعلام وملخصات أفلام ومسرحيات ونظريات فلسفية.. ثم ينقلون ذلك كله أو بعضه إلي مجالس أخري.. يتحدث أحدهم عن ديستويفسكي بما ينقل إلي محدثيه شعوراً أنه قد قرأ كل أعماله. ويتحدث آخر عن المذاهب الفلسفية والفنية بلهجة الدارس الذي أجهد نفسه في المتابعة والمناقشة والتحليل وتتناثر في كلمات آخرين أسماء أعلام وكتب واتجاهات بما يعكس ثقافة واسعة. ظني أنه قد ساعد هذه الظاهرة أسلوب الملخصات الذي تصدر من خلاله بعض دور النشر أعمالاً عالمية مهمة.. ولعلي أشير إلي سلاسل تقدم عشرة كتب عالمية في كتيب محدود الصفحات أو تختصر التراث الإنساني بكامله في بضعة مجلدات.. والهدف المرجو أو المعلن ان تكون مؤشراً للأعمال الاصلية.. لكن القاريء يكتفي بما قرأ ويعتبره غاية المراد من رب العباد ويتحدث عما قرأ من ملخصات وكأنه قرأ الأعمال الكاملة! وقد أخذت الظاهرة بعداً آخر غريباً في اعتبار البعض ما شاهده من أفلام أو مسرحيات مأخوذة من أعمال أدبية. نقلاً جيداً عن تلك الأعمال يغني عن قراءتها ويسمح بالتحدث فيها. توهماً أنهم قد عرفوا عنها بما يكفي!.. وكم أذهلني تناول كاتب كبير لرواية استاذنا نجيب محفوظ "خان الخليلي" ناقش الرجل فنية الرواية وحلل الأحداث والشخصيات ثم أنهي ما كتبه بالاشارة إلي أنه لم يقرأ الرواية. وإنما اكتفي بمشاهدة المسرحية المأخوذة منها!.. وتبلغ الظاهرة حد المأساة عندما يلجأ ناقد إلي تلخيص للعمل الأدبي كتبه ناقد آخر فيبني عليه مناقشته للعمل.. وهو ما نطالعه للأسف في العديد من الكتب النقدية المعاصرة.. يفلح ناقد في إخفاء سطوه علي جهد الآخرين. بينما لا يجد ناقد آخر ما يدعو إلي إخفاء ما فعل. ولعل المثل الذي يحضرني ذلك الكتاب الضخم عن توفيق الحكيم ناقش مؤلفه فيما ناقش رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل ثم ذكر في الهامش أنه قد اعتمد في كل ما كتب علي كتاب علي الراعي "دراسات في الرواية المصرية" أي أنه ببساطة لم يقرأ الرواية التي قتلها نقداً! وامتدت الظاهرة إلي الرسائل الجامعية فلكي يوهم الباحث لجنة المناقشة أنه قرأ الكثير حتي يعد رسالته فإنه يلجأ إلي نقل قوائم المصادر والمراجع من كتب الآخرين مما يتصور أنها تقترب من موضوعه ويذيل بها كتابه باعتبارها مصادره ومراجعه وتحدث مآزق تواجه الباحث ومناقشه في آن. أخطر ما تفرزه ثقافة العناوين والساندوتش والتيكاواي أنصاف أو أرباع مثقفين يتصورون أنهم قد حصلوا من المخزون المعرفي ما يؤهلهم لتولي أخطر المسئوليات في الساحة الثقافية مع أنهم مجرد طيور تلتقط الأسماك من سطح البحر دون أن تدري ماذا تخفي أعماقه!