عندما يكون المعلم مثقفاً ومبدعاً . لابد أن نظرته للعملية التعليمية ستكون مختلفة . وإذا كنا في مصر فلابد أنه سيكون أكثر الناس معاناة مع هذه العملية ومن يقومون عليها. صفاء عبدالمنعم روائية وكاتبة معروفة تنتمي إلي جيل الثمانينيات . أصدرت عدة روايات ومجموعات قصصية وتشارك بفاعلية في الحياة الثقافية منذ مطلع الثمانينينات وحتي الآن . رمتها الأقدار لتعمل بالتربية والتعليم . ورغم أن فرصاً عديدة جاءتها للعمل خارج مصر فقد رفضت صفاء السفر وأصرت علي القيام بدورها الذي تؤمن به تماماً . وسعت دائماً إلي الاهتمام بالأنشطة واكتشاف الموهوبين من بين التلاميذ الذين شاءت ظروف صفاء أن يكونوا من أبناء المناطق الشعبية حيث عملت في مدارس ابتدائية حكومية . وتتولي الآن إدارة إحدي هذه المدارس. في افتتاح المركز الدولي للكتاب التابع لوزارة الثقافة فوجئنا بصفاء عبدالمنعم تصطحب عشرات التلاميذ الموهوبين ليعرضوا أنشطتهم ومواهبهم أمام ضيوف حفل الافتتاح من كبار الكتاب والمفكرين يرافقهم وزير الثقافة ورئيس هيئة الكتاب.وأثني الجميع علي التجربة وتمنوا أن يكون في كل مدرسة كاتبة أو مثقفة في حجم صفاء عبدالمنعم وحماسها. هناك الكثيرمن المثقفين والمبدعين الذين يعملون بالتربية والتعليم . لكن أغلبهم لا يمتلك شجاعة صفاء عبدالمنعم التي تصرخ هنا مؤكدة أننا بالفعل أمة في خطر بسبب انهيار العملية التعليمية .. قلت لها إن حديثك هذا ربما يسبب لك مشاكل مع المسئولين لكنها أكدت أنها تخلص ضميرها من الله حيث لايشغلها سوي إنقاذ التعليم الذي يعني إنقاذ الأمة تقول صفاء عبدالمنعم : في الستينيات عندما قامت روسيا بإطلاق أول صاروخ للفضاء الخارجي إلي القمر . صرخت أمريكا بصوت مرتفع "نحن أمة في خطر" . وكان أول شيء فعلته أمريكا هو إصلاح التعليم . * إذن فإن التعليم في رأيك هو السبيل الوحيد لإصلاح الأمة وإنقاذها ؟ نعم إصلاح الأمة يأتي من إصلاح التعليم . وهذا ما فعله محمد علي عندما أراد بناء الدولة الحديثة في مصر عام 1805. قام ببناء نظام تعليمي جيد وأرسل البعثات إلي الخارج .وجميعنا يذكر الشيخ "رفاعة الطهطاوي" جيدا ثم جاء الخديو إسماعيل وأسند إصلاح التعليم إلي "علي مبارك". في هذه الحقبة لم يقم علي مبارك باستيراد أي أبحاث من الخارج أو قام باستيراد مناهج ناجحة في بلادها كي تطبق في مصر . * وماذا حدث بعد ذلك؟ منذ آواخر القرن الماضي في بداية التسعينيات تحديدا . ونحن في مصر نقوم باستيراد ملفات جاهزة لإصلاح التعليم بداية من "التعلم النشط . وملفات الإنجاز والجودة.. إلخ" دون النظر إلي دراسة البيئة المصرية وظروفها وما يناسبها . وأهملنا دراسة المواد الثقافية لصالح تدريس النظام الأمريكي . أو النظام البريطاني والذي يدرس في بعض المدارس . * ولكن التعليم في الستينيات كان مختلفاً وأكثر جودة ؟ نعم ربما نكون نحن الجيل الأخير الذي تعلم وتربي بشكل جيد. ليس كل ما هو قديم سييء . ولا كل ما هو جديد صالح. التعليم في المرحلة الابتدائية سابقا كان يعتمد علي تعلم مباديء اللغة العربية والحساب والقيم الدينية والعلوم والدراسات الاجتماعية. ومع ذلك كل الأجيال التي تعلمت في هذه الحقبة "الستينية" في المدارس الحكومية المجانية . كان تعليمها جيدا من وجهة نظري رغم أن أولياء الأمور كان معظمهم لا يجيد القراءة أو الكتابة . وكانوا من أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة . ابن العامل يجلس بجوار ابن الموظف والطبيب والفلاح ..الخ يتلقون تعليما واحدا . * وماالذي تغير بعد ذلك ؟ في التسعينيات ومع الانفتاح الاقتصادي وصعود طبقة جديدة "النيو ريتش" الأغنياء الجدد . بثقافتهم . وذوقهم . ومتطلبات السوق . وسقوط الطبقة الوسطي التي كانت ركيزة المجتمع المصري والتي تكونت منذ عهد محمد علي بكل شرائحها .وافتتاح العديد من المدارس الخاصة بكل شرائحها .كان المعلمون لا يتكالبون علي فكرة الدروس الخصوصية . وكانت الأنشطة في المدارس تمارس ولها حصص أساسية في الجدول المدرسي كل ذلك اختفي بداية من تلك الحقبة. *وكيف تلخصين أسباب انهيار التعليم في مصر تحديداً؟ -هناك أسباب كثيرة . منها: إلغاء معاهد المعلمين والمعلمات "المضخة الأساسية" للتعليم الإبتدائي . المعلم كان تربويا . دخول اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية جعل الطالب وولي الأمر يهتم بها علي حساب اللغة العربية . إعارة بعض المدرسين الجيدين للعمل في دول الخليج . وسد العجز بأي طريقة جعلت بعض المدارس تستعين بمن هم غير تربويين . إلغاء تعيين خريجي كليات "التربية" في وزارة التربية والتعليم .مما أثر علي العملية التعليمية بالسلب . تعيين ابناء العاملين في الوزارة أسوة بالوزارات الأخري مما فتح الباب لخريجي الحقوق والتجارة والزراعة وغيرها من الكليات غير التربوية للعمل في التعليم . ثم إرسالهم بعد ذلك للحصول علي مؤهل تربوي . التوسع في إنشاء المدارس الخاصة "الرخيصة" والتي تقوم بتعيين مدرسين غير مؤهلين تربويا للعمل بها وبمرتبات متدنية . انتشار ظاهرة الدروس الخصوصة بكثرة بسبب ضعف الراتب الشهري للمعلم . مما جعله يتغاضي عن كرامته لصالح المادة . خصوصا بعد تقلص فرص الإعارة للخارج . انتشار المراكز التعليمية مما أدي إلي اختفاء دور المدرسة . وشجع الطلاب علي التسرب . التقليل من شأن المعلم في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة . وتطاول الطلبة علي المعلم سواء بالقول أو بالفعل علي غرار مسرحية "مدرسة المشاغبين" مما أضاع هيبة المعلم . فلم يعد هو القدوة التي يحتذي بها . إهمال الأسر تربية أبنائها تربية صحيحة علي المقياس الأخلاقي "العيب والحلال والحرام" والتدين الشكلي الظاهري وتفريغ الدين من محتواه . عدم تفعيل "كادر المعلم" بالشكل الحقيقي كما كان المفترض له أن يكون كي يرفع من شأن المعلم ماديا . رسوب التلميذ لأكثر من مرة بحيث يصعد تلقائيا للصف العلوي حتي لو كان راسبا "النجاح بحكم القانون" فيصبح في الصف السادس طالب عمره 12 سنة وآخر عمره 16 سنة جنبا إلي جنب . وجود درجات اعمال سنة بالشهادة الابتدائية مما جعل المعلم يتحكم في التلميذ . تكدس أعداد الطلبة في الفصول بحجة الغاء تعدد الفترات فأصبح الفصل به أكثر من 60 طالبا أو أكثر . التوزيع الجغرافي في التقديم للصف الأول الابتدائي جعل بعض المدارس التي بها جذب سكاني شديدة الكثافة في الفصول ومناطق الطرد السكاني بها قلة في الفصول . عدم وجود كنترول جيد علي ما تبثه برامج الأطفال من أفلام الكرتون التي ترسخ لمباديء بعينها . واستيراد لهجات غير لهجة الشعب المصري . مما أدي إلي التقليل من شأن الهوية المصرية . والعادات والتقاليد التي كان يحتفظ بها الشعب منذ آلاف السنين . لصالح ثقافات اخري وافدة . تكرس لمفاهيم مختلفة وصادمة . * وماذا عن المدرسة نفسها ودورها؟ اختفي دورها التعليمي والتربوي وهذا ما جعل أهمية المدرسة في تقلص دائم .كانت المدرسة قديما هي المصدر الثاني للأخلاق والتربية بعد الأسرة.. اختفي هذا الدور الآن . * التعليم نفسه الموجود الآن هل يعد الطالب بشكل جيد للحياة العملية؟ هناك فجوة بين التعليم الحقيقي وما يوجد في الكتب الآن من قشور علمية وتاريخية.. ونظام وضع طريقة الامتحان والإجابة في ورقة الأسئلة عدا اللغة العربية مما سهل علي الطالب الاختيار والاستهتار في المذاكرة .. بالإضافة إلي صراع المجموع . *هناك اتهامات كثيرة للمعلم في التسبب في انهيار العملية التعليمية؟ لاحظ اختفاء بيت الشعر "قف للمعلم ووفه التبجيلَ.. كاد المعلم أن يكون رسولا" التلميذ اشتري المعلم بثمن الدرس لخصوصي . والمعلم تحكم في التلميذ بدفتر الدرجات . كما أن تحميل المعلم أعباء فوق طاقته بملفات مثل "الجودة والتعلم النشط ..الخ" مما أثر علي عطائه في العملية التعليمية . * تقول الوزارة إن هناك لا مركزية في المدراس وأن المدير مع المعلمين ومجلس الأمناء يضعون الخطط الملائمة للمدرسة ؟ كلام جميل . ولكن ما يحدث علي أرض الواقع مختلف تماما.أي شكوي من أي ولي أمر حتي لو كذبا وادعاء علي المدرس أو المدير تلقي صدي واسعا عند الوزارة أهم من أي عملية تعليمية مما أهدر دور المدير. التعليم الان اصبح يشكل جزءا ضاغطا علي ولي الأمر ماديا . وعلي المعلم نفسيا وعلي الدولة بحجة الإصلاح.. نحن نعيش الوهم وندافع عنه.