سطح مياه البحر مضطرب. الأمواج صاخبة مرتفعة. السماء ملبدة بالسحب والغيوم. صوت اندفاع الريح يغطي صوت ثورة تلاطم الأمواج. وضع كفيه داخل جيبي معطفه الثقيل. ضوضاء ماكينة القارب البخاري تصرخ داخل أذنيه. يضم تحت إبطه حافظة أوراقه الجلدية. يثبت ذراعه فوقها لتستقر فوق جانبه . كان جانب الشاطيء الآهل بالحياة يطل علي شريط آخر. مسافة للخروج من القناة إلي خليج السويس والاتجاه جنوبا.. المباني والشارع والاسفلت تتخللهما الأرض الخضراء المنزرعة بالحشائش والأشجار المزهرة تبدو كلها قريبة.. اللون الرمادي يغطي كل الألوان. فيلات مرشدي السفن متراصة ساكنة تعلوها اسقف برتقالية من القرميد الفرنسي المستورد. المصابيح اللامعة بالأنوار الباهتة داخل الطقس العاصف تنعكس فوق صور الأشياء كأنها بخر سراب. انكمش بجسده داخل المعطف. يتقي شدة البرد بتحريك قدميه وذراعيه وهو يتساند في مكانه!.. اتجه محاذرا ناحية كابينة قيادة اللنش. طرق بابها. فتح له الباب ريس اللنش.. كابينة القارب البخاري ضيقة وأكثر دفئا. استند بظهره بعد دخولها علي بابها المغلق. شعر بحرارة ماكينة القارب الهادرة فوق ساقية. شم رائحة غاز الوقود المحترق. تخترق أذنيه ضوضاء هدير الموتور. فرك وجهه بكفيه. تحدث مع ريس القارب: - مركبنا اللي جاي ياريس.. صحيح كده؟ كانت قافلة عبور القناة القادمة من ميناء بورسعيد في الشمال تقترب من نقطة نهاية عبورها والخروج من الجنوب إلي غاطس السويس متجهة إلي عرض البحر الأحمر أجابه ريس اللنش: أيوه صحيح.. أنت متأكد؟.. شغلي يمكن بالك سرح! مدة عشرين سنة وأنا في نفس الشغلة يا افندي.. محصلش إني سرحت.. معقول؟!.. ولا مرة واحدة ياريس؟!! يا أستاذ.. ملايكة الشغل بتطرد شياطين الغفلة!!.. ابتسم الأستاذ.. كان متبرما مستاء.. هبت العاصفة وأغلق الميناء. الأمواج في البحر خارج الميناء وصل ارتفاعها أكثر من ستة أمتار. رفعت الرايات الحمراء والسوداء. انطلقت نداءات التحذير. كل هذا أثناء دوام عمله.. مسئوليته هي أن يلحق سفن وكالته عند خروجها من الجنوب وتسليم الربابنة مستندات بواخرهم ووثائقهم الهامة المسحوبة منهم عند وصولهم بورسعيد شمال القناة لتغطية إجراءات عبورهم.. طقوس ضرورية ومقننة وواجبة التفعيل!.. إن تخلف أو تقاعس عن تسليم الأوراق المعينة والمطلوبة للربان فوق السفينة المقصودة تضطر السفينة للتوقف علي مخاطفها في غاطس السويس وانتظار وصول مستنداتها. وكل ساعة انتظار لسفينة البضائع المحملة أو ناقلة البترول أو أي نوع من السفن يكلف أصحابها أو مستأجريها عشرات وفي بعض الأحيان المئات من آلاف الدولارات كل سفينة حسب حجمها وحمولتها. وعمله وكيل ملاحي وواجبه تجنيب ملاك السفن أو مستأجريها تلك الخسائر الباهظة ومهما كانت الأحوال والصعاب. مضطر هو لا بطل. هذا دستور عمله المتفق عليه وواجبه تنفيذه لا. ولن توقفه أي عوائق أو كوارث أو حتي تلك النوة المهلكة.. لم ير الريس ابتسامة الأستاذ. كان مشغولا بمراقبة اتجاه طريق القارب بعينيه من خلال زجاج كابينته. الأستاذ بدوره يتطلع ويري هناك فوق حدود الظلام وعند التقاء مياه القناة والأرض بدكنة السماء مصابيح متناثرة باهتة تشق عتمة الليل. كانت المسافة بين كل مصباح وآخر طويلة. يعرف أنها الأضواء المسموح بها لسفن قافلة العبور عند إبحارها من الشمال. ويعلم أيضا أن السفينة القادمة في ترتيب الخروج هي الباخرة التي هو في انتظارها. زاد اهتزاز قاربهم البخاري. ارتفعت الأمواج. يشاهدان هيكل الباخرة الشاهق يقترب. يريان ضوء كشافها الأمامي الكبير. يتحرك الريس بالقارب إلي اتجاه الباخرة القادمة. تشتغل رفاسات القارب بقوة. تخرج وراء دورانها المسرع كميات كبيرة ومرتفعة من رغاوي زبد ورذاذ الماء يلمحان أعدادا من طائر النورس ترتفع وتنقض داخل شعاع الضوء المبهر المنبعث من كشاف السفينة الأمامي. ويسرع ريس القارب بزورقه يبحث عن سلم الباخرة. وعندما رآه اتجه إليه ووصل اسفله. وانطلق الأستاذ من فوق مقدمة القارب قافزا إلي سلم السفينة يرتقي الافندي الدرج راكضا ليقابل ربان السفينة داخل برج قيادتها وتسليمه مستنداتها ويؤدي كل هذا بسرعة وخفة حتي يتسني له العودة إلي اللنش قبل خروج الباخرة إلي عرض البحر الهائج والأمواج المرتفعة والتي لن يستطيع اللنش مواجهتها أو الخروج إليها. أنهي الأستاذ مأموريته فوق السفينة بسلام. في طريق عودته يهرول مسرعا لمح أضواء الشاطيء مازالت قريبة. رأي أربعة زوارق تحيط سلم الباخرة. أشباح رجال كثيرين سمع صرخات مبهمة كانت الباخرة تقترب من مخرج نهاية القناة. أسرع إلي ناحية السلم وهبط فوقه ثلاث درجات يشير وينادي قاربه الذي يقترب. ونزل درجات السلم إلي نهايته وما بقي أمامه غير الأمواج الصاخبة تلطم جانب السفينة! أتي القارب البخاري مندفعا. ومن غير سبب مفهوم لم تنخفض سرعته!.. عصيت المناورة باللنش علي ريس القارب. ارتفع اللغط وتردد صراخ. سمع الأستاذ الصرخة: - خد بالك اصطدم الزورق المندفع بمقدمة السلم. وتذكر الأستاذ أنه حين صعوده المتعجل عرف أن السلم قديم متداع الآن يستمع إلي صرير الحديد وقرقعة الخشب.. ترنح الدرج بمن فوقه. ينتاب الأستاذ خوف ويحتويه ذعر. أحس بالمياه الساخطة تضرب ساقيه. سمع صرخة رجاء وتوسل تنفذ داخل أذنيه: - اطلع.. ارجع فوق نظر إلي ناحية مصدر الصيحة. قابلت عيناه كفا ممدودة إليه. حاول متلهفا التعلق بها. يترنح الزورق فوق الأمواج ويصطدم عدة مرات وبقوة بالسلم المتهالك. وتنفلت الكف الممدودة من يد الأستاذ ويتخلي عن حقيبته تحت إبطه تطير الحقيبة في الريح حتي تختفي بين طيات المياه الراقصة يصخب.. يحاول الأستاذ أن يتشبث بجدار السفينة الشاهق الأملس. يسمع الصيحات المتباينة المرتفعة من حوله. كانت مقدمة السلم السفلي معلقة بحبالها الطويلة ومنفصلة عن باقي الدرج وتتقاذف الأمواج المقدمة المنفصلة الهاربة وفوقها الأستاذ. وتنطلق صرخة عالية ملتاعة صادرة بقوة من رجل فوق قارب من القوارب حول الباخرة وسلمها المخلوع. صرخة لخصت المأساة في ثلاث كلمات: - الحقوه.. الراجل ضاع!.. ركض رجل فوق سطح الباخرة مسرعا متوجها إلي قمرة القيادة. دخل البرج العالي. سمع المرشد يتكلم: أوقفت الماكينات.. رد الرجل المفزوع القادم وهو يلهث: السفينة لسه بتجري؟! طبعا.. من قوة الدفع.. لا يفهم حديثهم ربان السفينة اليوناني يتركهم ويخرج إلي سطح الباخرة ويواصل المرشد كلامه: مين اللي وقع في الميه؟!.. مش متأكد.. يعني من بره ولا من المركب؟!.. بيقولوا الوكيل الملاحي.. عاد القبطان إلي داخل قمرة القيادة مهتاجا. ارتفع صوته منفعلا بلغة إنجليزية واضحة: قوارب بخارية خربة. وسائق زورق ملعون!! يعلق الرجل المذعور بلغة إنجليزية ركيكة علي اتهامات الربان: - ربما!.. لكن الأمواج مرتفعة والعاصفة مجنونة!!.. ويردد المرشد بجدية وبالإنجليزية أيضا وبصوت واضح: ننقذ الرجل أولا.. يرد الربان محتدا: - لا .. لا .. لا نملك وقتا لهذا!! يغمغم الرجل المذعور بذهول: - ماذا تقول يا قبطان؟.. سلم باخرتك كان قديما متداعيا!! ينظر إلي ناحية الرجل الواقف في ظلام قمرة القيادة كل المتواجدين داخلها. تتقد عينا الربان. يصرخ بصوت غاضب: آه.. السلم؟.. من فضلكم أخبروني من يتحمل مسئولية ضياعه؟!!