بدأت أفلام بانوراما الفيلم الأوروبي بفيلم "جميل" للمخرج الأسباني "اليخاندرو جونزاليز اناريتو" وبطولة خافيير باردم الذي حصل علي جائزة أحسن ممثل في مهرجان كان الأخير "2010" عن أدائه لهذا الدور. وعلي النقيض من المعني الذي يلوح به العنوان. ليشيع الفيلم احساساً مشبعاً بالكآبة. ويستعرض ألواناً مختلفة من القُبح الإنساني. والظروف التي تصنع الإنسان في مرتبة دنيا.. الفيلم بمثابة رحلة عاطفية ثقيلة ومثقلة بالهموم الحياتية. يقطعها المتفرج مع شخصية "اوكسبال" "باردم" شاب في بداية الاربعينيات. عصبي. يشقي بظروف حياته المركبة. والمعقدة. وبذكرياته الشخصية الحميمة وظروفه الواقعية غير المستقرة. فهو يحمل ذكريات والده الذي لم يره ويحمل صورة له تشغل مساحة من وجدانه.. فقد رحل الأب عن البلاد وتركه جنيناً في بطن أمه. ولم يترك من أشيائه سوي خاتم بحجر من الماس قد لا يكون حقيقياً اعطاه الأب لأمه. واوكسبال هو نفسه أب مهموم بطفليه يعتني بهما ويحبهما ورغم ذلك لا يمضي معهما وجبة واحدة دون عراك مع أحدهما.. انه مطلق وزوجته امرأة عاهرة لا تصلح أماً للطفلين. فهي تعاني من مرض نفسي يجعلها مضطربة. وغير متزنة ويائسة تستميت من أجل أن يردها إليه مرة ثانية. وقد عاش اوكسبال حياة خارج القانون. ادمن المخدرات وتاب. وهو شريك لشقيقه السكير الذي يضاجع النساء ومنهن زوجة شقيقه يشاركه في مصنع صغير يتاجر في الممنوع ويستغل عشرات العاملات والعاملين من المهاجرين الصينيين غير الشرعيين. وإلي جانب هذه الظروف الصعبة يكتشف اوكسبال انه مريض بالسرطان وأمامه فترة محدودة جداً. وعليه أن يسوي أموره أولاً مع ذاته كإنسان اقترف الكثير. ومع ابنائه الصغار. ومع زوجته التي انتهت نهاية مأساوية جداً. ثم مع عشرات المهاجرين المساكين الذين تسبب دون قصد في موتهم داخل العنبر اثناء النوم بفعل الغازات الخانقة التي تسربت من الدفايات الرخيصة التي اشتراها للعاملين في المصنع حتي يجنبهم قسوة البرد.. المخرج وهو نفسه كاتب السيناريو انشغل بعدة موضوعات ترتبط بالموت والمرض والأبوة والذكريات والطلاق والهجرة غير الشرعية والاغتراب. والحياة خارج القانون. وأيضاً الإيمان بالخرافة والقدرات غير العادية للإنسان يستطيع أن يتواصل مع الموتي.. اعتمدت الحبكة علي خيوط عديدة وبشخصيات من جنسيات مختلفة التقت في مدينة برشلونة وفي أكثر الأحياء فقراً وتكدساً.. ورغم مظاهر القُبح التي تتناقض بسخرية مع عنوان الفيلم. يظل الجمال الأكيد في هذا العمل مرتبطاً بأسلوب تناول هذه الشحنات المتدفقة في حياة عبثية سوف تنتهي بالموت وفي معالجة التناقض الصارخ بين الأفكار التي تموج في عقل الشخصية وبين العالم المحيط بها. وفي خلق نسيج خشن يجمع هذه الخيوط المتشابكة والظروف غير المحتملة المنذرة بقرب دنو الأجل لشخص يمتلك القدرة علي الفعل والتمسك بالحياة ورفض الموت. ومن مصادر الجمال أيضاً إن كان في هذا العمل المقُبض أي جمال قوة المصور "رودريجو بريتو" الذي خفف من ثقل المشاعر وزحمة الأحداث بالتصوير الجميل لشخصية برشلونة ودروبها الضيقة وزحمة مبانيها إلي جانب تصويره الغريب للمطاردات الرهيبة لجموع المهاجرين السنغاليين في شوارعها. وصور المهاجرين الصينيين المحشورين داخل عنبر المصنع القذر الذي يملكه اوكسبال وشقيقه والظروف غير الآدمية البائسة التي تعيشها النساء العاملات بين الفقر والقهر والحصار. ولعل من أقوي عناصر الفيلم والأكثر إمتاعاً أداء الممثل الفذ خافيير بارديم الذي حمل عبء تجسيد الأزمة الحياتية لإنسان "مكبل" رغم روحه المنطلقة ومغلول بالمرض العضال. وحائر في أمر ولديه بعد أن يرحل هو عن الدنيا حتي بعد أن طمأنه صديقه بالقول "إن العالم سوف يتكفل بهما" و"الطمأنينة" بالطبع تحمل شحنة اضافية من السخرية فمن أين تأتي في ظل ما نراه من ظروف؟. بارديم منح شخصية اوكسبال حضوراً طاغياً. وعكس بحرفية عالية صورة الشخصية التي تسكنها الهواجس وتصطرع في أعماقها عناصر الخير الرافضة للاستغلال الوحشي للمهاجرين أولاً من قبل شقيقه. وثانياً من قبل اثنين من ابناء جلدتهم. صينيان يشرفان علي المصنع وتربطهما علاقة مثلية. ثم عطفه علي المرأة الأم السنغالية التي منحها ما معه من فلوس حتي تستمر مع أولاده ولكنها أخذتها وسارعت لتحقيق حلمها بالعودة إلي بلادها. إنه أب مهموم بمستقبل ابنه وابنته. مهموم بمرض قاتل هبط عليه لينهي حياته. مهموم بمشاعر ندم فهو شريك في قتل عنبر العاملين في المصنع. كل هذه الأثقال المعنوية والحياتية استطاع الممثل أن يهضمها وأن يعيد إنتاجها في تعبيرات وشحنات من القلق تعكسها ملامحه ولغة جسده ونوبات الانفعالات العصبية.. إن الفيلم مبن علي طبقات فوق طبقات من الهموم المتنوعة الواقعية مع ألبوم من النماذج التي تم رسمها بدقة. مع صعوبة تركيبتها مثل شخصية الزوجة المطلقة المضطربة التي عبرت بدورها عن أعراض المرض النفسي بأداء جيد جداً من الممثلة مارسيل البارز.. من شاهد خافيير في فيلم جميل الذي عرض في نفس الدار الذي تعرض "طعام وصلاة وحب" الذي يلعب فيه هذا الممثل نفسه شخصية أخري تجسد الإمكانيات الهائلة التي يملكها هذا الممثل.. وتضع أمام المتابع المهتم بلغة الأداء التمثيلي وتجليات الموهبة الإبداعية نموذجا لمعني "الجمال" ومتي يكون الممثل "جميلاً" ومبدعاً!