كان لابد مما لابد منه.. أن تتحامل علي قدميها المريضتين وتخرج لتخليص اجراءات صرف معاش زوجها المتوفي. الأزمة الخانقة لم تترك لها مجالا للتردد والنزول إلي الشارع الذي لم تخرج إليه من اسابيع منذ أن مرضت. كانت المشكلة في منزلها البعيد جدا عن مقر هيئة التأمينات والمعاشات. أما تجربتها مع سرقة المحفظة من شنطتها في المواصلات فقد علمتها الا تحمل معها سوي جنيهات تكفي لتلك المواصلات وربما أيضا لما يمكن أن تشتريه من ضروريات في طريق عودتها. هذا إذا ما فكرت في الشراء. هي إذن لن تغامر بما تبقي معها من جنيهات هي أقل من القليل الذي يكفيها لحين صرف المعاش. فلتحتفظ بهذا القليل جدا في منزلها اتقاء للسرقة ولتأخذ معها عشرة جنيهات فقط لزوم ركوب مواصلتين في الذهاب ومثلهما في العودة. بعد مشقة صعود الباص فاجأها الكمساري بما لم تحسب حسابه وهو ارتفاع ثمن تذكرة الركوب إلي جنيهين اضطرت لدفعهما. وعندما نزلت لتأخذ المواصلة الثانية انتظرت طويلا علي المحطة والألم في قدميها يعاودها. بينما راحت تنظر إلي سيارات التاكسي وهي تمر امامها واغراء الاشارة لإحداها يراوغها. التعود علي ركوب التاكسيات ولو في الذهاب فقط دون الإياب لا يسمح به أبدا دخلها الضئيل. ولكن ما باليد حيلة. في طريق العودة بعد أن أنهت الاجراءات اكتشفت انها ركبت المواصلة الخطأ. كان عليها عندئذ أن تنزل وتستقل من الرصيف المقابل مواصلة أخري. ساعتها فقط اكتشفت أن محفظتها لم يبق فيها سوي خمسين قرشا لا تسمح لها إلا بركوب باص يوصلها فقط إلي بداية طريق لن يدخل فيه. أما هي فعليها أن تقطع بقدميها المريضتين خمس وربما ست محطات سيرا في هذا الطريق كي تصل إلي منزلها. لم تجد أمامها سوي حل وحيد هو أن تطلب من أحد المارة جنيها لركوب المواصلة الثانية. اقتربت في سيرها المجهد من شاب قادم في مواجهتها.. قبل أن تصل إليه اعترضت الشاب متسولة تطلب صدقة رد عليها الشاب بعصبية وهو يمضي في طريقه مسرعاً: يحنن ياست.. يحنن موقفه من الشحاذة جعلها تتراجع عن سؤاله. أخيراً وجدت فرصتها في رجل قادم تجاهها. كانت تبدو علي وجهه مسحة من الطيبة. اعترضته وهي تعرج بعض الشيء بقدمها وهمت أن تطلب منه ثمن المواصلة.. لكن قوة عاتية داخلها ألجمت لسانها عن الطلب في آخر لحظة. وإذا بها تسأله في سرعة خاطر تسأله: هي الساعة كام دلوقت يابني؟