زحام غير عادى "يا طالع الأتوبيس خلي بالك من القميص"، "قبل ما تركب الميني باص اتشهد على روحك وخلاص"، "امشي على رجليك بدل ما تحصل والديك" الله يرحمهم طبعا كانت هذه وغيرها عينة من الأمثال الشعبية التي افتكسها خيالي حين دار بي الزمان واضطررت لمشاركة العامة والدهماء في ركوب المواصلات طوال الأسبوع الماضي، فمحسوبكم وبلا فخر "عزيز قوم ذل"، حيث تعطلت سيارتي "الفارهة" التي يحسدني عليها جميع من يخالطني لأنها ماركة "اللي يحب النبي يزق" كما يرددون في مصرنا العزيزة .
وفي أول "المحنة" عملت بالنصيحة غير الواقعية التي تقول "هين قرشك ولا تهن نفسك" واعتبرت نفسي من أبناء الذوات الذين لا يتحركون إلا بالتاكسي لكنني لم احتمل الصمود لأكثر من يومين، إلا وقررت أن أقلب النصيحة لتصبح "هين نفسك ولا تهن قرشك" وحزمت أمري وقررت ركوب الصعب بل الجحيم، أقصد وسائل المواصلات التي يعتبرها المصريون من أقسى وسائل التعذيب، وهناك رأيت ما لم أكن أرى وصادفت الأهوال.
وذلك بداية من انتظار عربات الميكروباص والتوسل لأصحابها لقبول ركوبي سياراتهم المكرمة التي انتهى عمرها الافتراضي منذ عشرات السنين ومرورا بالانحشار داخل علب السردين الأشبه بعنابر الغاز المنسوبة لأدولف هتلر التي يسمونها كذبا أتوبيسات النقل الفاخر، وانتهاءً بالمساخر التي تقع داخل تلك "الكانتونات" المعزولة عن العالم.
ولعل الحديث عن فوضى المرور وعذاباته في مصر "المحروسة" يعتبر من قبيل التكرار المكروه لكن على ما يبدو أنه حقا "ليس من رأى كمن سمع"، فلم أكن أتصور أن يصل الأمر منتهاه على هذا النحو، فالسيارة التي يفترض أن حمولتها 14 يتكدس بها عشرون، والسائق في عمر الزهور بدون رخصة ولا خبرة ولا أي شيء من هذا القبيل، فكل ما يعرفه هو دواسة البنزين والفرامل والكلاكس، لكنه لا يعرف كيف ومتى ولماذا يستخدم هذا أو تلك.
ياترى طالعين ولا نازلين ؟ ويالسوء حظك إذا صادفت سائقا كارها للدنيا واللي عايشين فيها بحيث يبدو وهو يقود السيارة المتهالكة كأنه مقدم على تنفيذ عملية انتحارية، ولا يفلح معه توسل ولا شفاعة للتهدئة أو حتى إقناعه بالوقوف لتنزل وتفلت بعمرك، فهو لا يقف إلا لركوب أحد الضحايا الجدد ووقتها فقط يمكنه السماح لك بالنزول والحجة طبعا معروفة "ممنوع الوقوف هنا يا بيه".
أما في الأوتوبيسات الكبيرة التي يفترض أنها محترمة فمن العادي أن تجد مشاهد غاية في الهزل، بداية من جلوس الشباب ووقوف العجائز والحوامل والنساء اللاتي يحملن أطفالهن على ذراعهن دون أي إحساس من أخينا الجالس المتنطع ممن ينتمي لفصيلة معدومي الإحساس والضمير، والذي يتظاهر في الغالب بانهماكه في قراءة القرآن الكريم أو ترديد أذكار الصباح والمساء، أو ركن رأسه على المقعد بحيث يخيل إليك أنه مستغرق في سابع نومة أو أنه مغشي عليه من التعب.
ويا ويله يا سواد ليله من تسول له نفسه التدخل بكلمة خير ليحث الجالس على الإفساح لمريض أو صاحب عاهة أو سيدة غير قادرة على الوقوف، حيث تنهمر عبارات الشتم المقذذة على الدخيل والتي تبدأ من "وانت مالك يا بارد" مرورا بترديد العبارة الشهيرة "أمال مساواة إيه اللي الستات عايزاها" وبدون حد أقصى، وذات مرة إذ بي محشورا داخل تلك العنابر الخانقة الأوتوبيسات إلا وصادفت مشهدا غاية في الغرابة.
حيث صعد للباص رجل ومعه ثلاث من بناته أكبرهن في حدود العاشرة من عمرها وأصغرهن في حدود الخامسة، ويا للوعة الرجل المكلوم الذي فرق الزحام الرهيب بين فلذات كبده ولم يملك سوى النداء عليهن بلهفة المحسور : يا هند يا أماني يا صفاء ، أنا هنا عند الباب الأمامي ، انتو فين ، ومن بين الأجساد المتلاصقة سرت أصوات الصغيرات متحشرجة، أيوة يا بابا أنا وأماني جنب بعض لكن صفاء مش معانا. تاهت من أبيها وسط الزحام
وإذا بالأب الموتور يشق طريقه كالثور الذبيح ليخترق الزحام الرهيب ويكتشف بالنهاية انزواء صغيرته على أحد الأركان الحديدية للمقاعد الخلفية للباص تنظر للشباب الجالسين على المقاعد وتستعطفهم ببراءة الأطفال في عينيها أن يرحم أحدهم ضعفها وهزالها، لكن هيهات هيهات. وبعد هذا الفاصل الدرامي الذي عايشته لحظة بلحظة، حان موعد اختبار صعب جديد يتمثل في محاولة النزول من الباص عبر القنوات الشرعية المعروفة بالباب الأمامي، خصوصا وأنني لا طاقة لي بأفعال البهلوانات الذين يجيدون ركوب والنزول من العربات أثناء سيرها، وهنا كان الثمن الذي دفعته غاليا، فلحين ما وصلت للمراد من رب العباد كانت قد فاتني محطتان بعيدا عن المكان المفترض نزولي فيه، لكنني على أية حال كنت أشكر الله جل في علاه في كل مرة أنجو فيها بعمري من صناديق العذاب تلك التي يسمونها مواصلات.