في اليونان حاليا تجربة جديدة وجادة للتغيير.. يقودها رئيس الوزراء الشاب اليكسيس تسيبراس - 40 سنة - زعيم حزب "سيريزا" اليساري الذي كان معارضا ثم فاز في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالأغلبية وشكل الحكومة.. وجاء فوزه بمثابة صدمة حقيقية في أوروبا تفوق كل التوقعات. التجربة جديرة بالنظر والتحليل.. خاصة من جانب المجتمعات التي مازالت تعاني سياسيا واقتصاديا مثلنا وتتطلع إلي نماذج ناجحة ومشجعة للتغيير.. ومن المفيد أن تكون رؤيتنا للتجربة اليونانية الجديدة خارج إطار الاستقطاب السياسي والتصنيف الأيديولوجي التقليدي بين اليمين واليسار.. فالتجربة تظل محكومة بظروفها الداخلية وتحدياتها الخارجية ومستوي النضج الاجتماعي الذي تتحرك وتتفاعل فيه. والمعروف ان اليونان شهدت خلال السنوات الماضية أزمة مالية واقتصادية مستحكمة أوصلتها إلي حافة الإفلاس وأثقلت كاهلها بالقروض الخارجية التي بلغت 320 مليار يورو - أي ما يعادل 175% من إجمالي الناتج المحلي - وعندما تقدمت أوروبا لمساعدتها قدمت مع الأموال خطة إنقاذ مشروطة بإجراءات عنيفة للتقشف وتخفيض الخدمات العامة مثل التي فرضت علينا.. لكن الشعب اليوناني تحول عن الحكومة التي أبرمت هذه الخطة وقبلتها واتجه إلي التغيير من خلال طرح جديد قدمه حزب سيريزا اليساري وزعيمه الشاب. وكان في مقدمة هذا الطرح الجديد رفض روشتة الإصلاح - أو الإنقاذ - المقدمة من قبل ترويكا المانحين: الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الأجنبي والاتجاه إلي تبني خطوات جريئة كانت في الواقع ثورة آتية من خارج الصندوق ومن أهم هذه الخطوات: * التوقف عن سداد أية قروض والدعوة إلي التفاوض مجددا وبصورة مباشرة حول الديون الضخمة التي ترزح تحتها البلاد.. ومعظم هذه الديون ترجع لحكومات في منطقة اليورو وخاصة المانيا وفي حالة استمرار التوتر وعدم السداد سوف تشهد منطقة اليورو أزمة حقيقية تؤثر علي ثوابتها. * رفض أي مفاوضات حول تجديد برنامج خطة الإنقاذ واستبدالها بالحصول علي قرض محلي. * تقليص النفقات الحكومية إلي أدني حد ممكن. * زيادة الرواتب والمعاشات.. ورفع الحد الأدني للأجور إلي 850 دولارا شهريا حتي يتسني توسيع قاعدة الاستهلاك ويعود الرواج التجاري والصناعي. * شن حرب صارمة ضد الفساد والتهرب من الضرائب ومراجعة أرصدة رجال الأعمال الكبار في الخارج من خلال وحدة خاصة تشكلها الحكومة. * مطالبة المانيا بدفع تعويضات لضحايا الحرب العالمية الثانية وإعادة دفع القرض الذي دفعته اليونان رغما عنها جراء اجبارها علي ذلك من قبل النازيين. تجربة التغيير في اليونان - كما تري - لا تقوم علي خطب إنشائية وشعارات حماسية.. وإنما علي خطط وإجراءات مدروسة وان كان ذلك لا يمنع من الإشارة إلي القوة التي يتحدث بها تسيبراس عندما يؤكد ان اليونان لن تتراجع ولا تستطيع العودة إلي خط الإنقاذ والرضوخ وأبدا لن تكون هناك عودة إلي الوراء.. وأيضا عندما يؤكد ان حكومته لديها واجب أخلاقي تجاه شعبها وأمام التاريخ والشعوب الأوروبية عموما. وبالطبع لن يكون التغيير سهلا.. ولن تنجح التجربة بسهولة.. فأوروبا الآن تكاد تجتمع علي مناوأته ورفض برامجه.. وقد قام بجولات عديدة في الدول المجاورة وعقد اجتماعات مع مسئولين كبار انتهت كلها إلي رفض شطب أي ديون لليونان.. والإصرار علي ان توفي حكومة تسيبراس بهذه الديون كاملة وهو ما يعني ان المعركة ستكون صعبة وطويلة الأمد. بقيت اشارة مهمة إلي أن إسرائيل هي الأخري اصيبت بصدمة جراء التغيير الذي يحدث في اليونان.. فالحكومة السابقة كانت صديقة لها.. وكان هناك تعاون أمني علي أعلي مستوي بين الجانبين وساهمت في منع سفن الحرية من ان تصل إلي شواطئ غزة لفك الحصار بينما كان تسيبراس ومعظم زعماء حزب سيريزا يتظاهرون تضامنا مع شهداء غزة ومنهم من كان علي ظهر السفن الآتية لفك الحصار.. ومن هنا نستطيع ان نفهم كيف ستكون الصورة في المستقبل إذا نجحت تجربة التغيير وحققت أهدافها.