عندما بدأ المستشار الجليل أحمد رفعت. وقائع المحاكمة الأولي لمبارك ورجاله. ونجليه.. أفزعنا حجم الأخطاء اللغوية التي تجري علي ألسنة رجال العدالة: القاضي والنيابة. والمحامي.. كتبنا عن ذلك في حينه. ونبهنا إلي ما يمثله من خطورة علي اللغة العربية. وعلي القضاء أيضاً.. وتقبلت المحكمة ذلك منا بصدر رحب. ولم ترهبنا بالسجن.. بل إننا أشرنا إلي هذه الأخطاء في مكالمة هاتفية أجريتها والزميل الكبير الأستاذ السيد العزاوي. مع المستشار الجليل أحمد رفعت. بعد أن نطق بالحكم المؤبد علي مبارك.. وتقبل الرجل ملاحظاتنا كلها بروح طيبة. ثم جرت مياه كثيرة تحت الجسور.. وتغيرت أوضاع كثيرة.. ولكن ظلت الأخطاء اللغوية التي تجري علي ألسنة رجال العدالة: القاضي والنيابة والمحامي. تمثل هاجساً مخيفاً لأولئك الذين يهتمون بالمستوي الذي يجب أن تكون عليه اللغة والمستوي الذي يجب أن يكون عليه القضاء في بلادنا.. وما شهدناه في محاكمة مبارك الثانية زاد من خوفنا وفزعنا.. فرجال القضاء يقفون علي قمة هرم النُخبة الفصيحة. لأنهم يتعاملون مع الكلمة في القانون والدستور.. والكلمة هي أساس البيان في النسق اللغوي.. ومن لا يجيد التعامل مع هذا النسق اللغوي. لن يجيد التعامل مع القانون والدستور. وقد نبهنا إلي ذلك مرة أخري الزميل فتحي الصراوي في ملحق "دموع الندم" ب"الجمهورية" يوم السبت الماضي حينما قال: "مشهد يسيء للقضاء بكل تأكيد. عندما يبدأ وكيل النيابة مرافعته. أو يبدأ القاضي النطق بالحكم. فيخطئ خطأً جسيماً في أبجديات اللغة العربية.. فهذه فضيحة". وأنا مثل زميلي الصراوي بالضبط أُصاب بالحسرة عندما أشاهد القاضي صاحب الخبرة الطويلة يعتلي منصة العدالة أمام كاميرات التليفزيون المحلية والعالمية. حيث يُنقَل الحدث مباشرة إلي العالم. فإذا بالقاضي الجليل ينصب المرفوع. ويرفع المنصوب في مشهد مثير للسخرية والحزن علي ما أصاب لغتنا العربية عند أصحاب المقام الرفيع. لا أدري علي مَن تقع المسئولية في ذلك الهبوط اللغوي.. هل علي مناهج التعليم القاصرة. أم علي المجلس الأعلي للقضاء. الذي يجب أن يتابع وينظم دورات تدريبية لرجاله. أم للقُضاة أنفسهم. ووكلاء النيابة الذين لم يهتموا بتنمية ورفع مستواهم اللغوي.. وسد جانب مهم من جوانب النقص لديهم؟!! إن المعاني العالية العميقة. تحتاج إلي لغة عالية عميقة تعبر عنها.. وقديماً قالوا إن حسن التعبير من حسن الفهم.. والقضاء الجالس والواقف كان طوال تاريخنا من مصادر الإلهام اللغوي الرفيع. ومواطن الفصاحة في المرافعات. وفي صياغة الأحكام.. ولا شك أن التمكن اللغوي يضفي علي رجال القضاء مهابة فوق مهابتهم.. بينما تكون العشوائية في استخدام اللغة سبيلاً إلي التذبذب. والمطاعن. وإذا كنا نطالب خطباء المساجد وأساتذة الجامعات والمدرسين. والصحفيين والإعلاميين. ورجال السلطة. وكل من يتحدث إلي الجماهير بأن يولي اهتماماً خاصاً بترقية لغته وتطويرها. فضلاً عن تصحيحها. فإننا نطالب رجال القضاء بما هو أكثر.. لأنهم القدوة. فلينظر كل منا إلي مواطن الخلل اللغوي في نفسه. ويسعي لإصلاحها.. ومن قال أعلم.. فقد جَهل.