أحمد طه النقر منذ الاستماع الي ديباجة الحُكم الذي أصدره المستشار المخضرم أحمد رفعت فيما عُرف بقضية القرن، وأنا أشعر بالحزن والخجل والعار لما أصاب اللغة العربية من عدوان سافر وخطير لا يجب أن يمر مرور الكرام وخاصة أنه صدر من قاض مخضرم يقف علي مسافة أيام من ختام حياته المهنية. وهذا الشعور المُقبض لا يزال يحاصرني ويقطع علي طريق التفكير في أي موضوع آخر حتي ولو كان منطوق الحُكم ذاته وما أعقبه من ردود فعل كانت و لا تزال كما الزلزال الذي يضرب البلاد من أقصاها الي أقصاها.. بلغ بي الغضب حد التفكير في رفع دعوي قضائية ضد المستشار احمد رفعت أتهمُه فيها باغتيال لغة الضاد مع سبق الإصرار والترصد، وهو ما ثبت من واقع عشرات الاخطاء النحوية القاتلة والفادحة التي احتوتها ديباجة الحُكم السياسية الطويلة التي أصر علي أن يشنف بها آذاننا، وليته ما فعل، ناهيك عن ضعف، بل فقر القدرات الإنشائية التي كشفت عنها مقدمة الحُكم.. ولم يقتصر الأمر علي إيذاء أذني فضلا عن آذان كل مَن استمعوا الي رئيس المحكمة، وخاصة ممن يجيدون العربية ويقدسونها ويغارون عليها.. ولكن اكثر ما ضاعف إحساسي بالهم والغم والخجل أن آذان وعيون العالم كله كانت صاغية ومفتوحة عن آخرها لتري وتسمع علي الهواء مباشرة الحكم التاريخي علي أول فرعون يضعه شعبه خلف القضبان.. والحق أن الحكم جاء تاريخيا فعلا ولكن ليس لنزاهته أو عدالته، فذلك ما لا يجوز التعليق عليه، وإنما لأنه جاء بلا نظير وغير مسبوق في كم الاخطاء النحوية والإنشائية التي اشتملت عليها ديباجته.. وللإنصاف فإنني اقول لمن يتحاملون علي القاضي احمد رفعت بشأن الحكم إن اللوم كله يقع علي تكييف التهم منذ البداية، ويقع كذلك علي من دمروا أدلة الإدانة في جريمة قتل الثوار.. ثم المؤامرة التي تمثلت في رفض عقد محاكمة سياسية للرئيس المخلوع وولديه واركان حكمه وكبار مساعديه بتهمة إفساد الحياة السياسية وتبديد ثروات البلاد. غير أن هناك أسبابا أُخري للألم والخجل .. أول هذه الاسباب أن مَن يرتكب كل هذه الأخطاء اللغوية الفاضحة يدفعك دفعا الي الشك في قدرته علي فهم اللغة الفصحي واستنباط الادلة واستخلاص النتائج خاصة وأن الكتابات القانونية بالغة الصعوبة والتعقيد.. والسبب الثاني أن هذا المستوي المتدني من الآداء اللغوي في مهنة تعتمد علي حرفة الكتابة والجدل والمحاججة يُلقي بظلال من الشك علي قدرات وكفاءة قضاة مصر.. ولن نفاجأ إذا قال أحدهم "إذا كان ذلك هو مستوي شيوخ القضاة، فما بالنا بالأجيال الاصغر والاحدث"؟!!.. مع ملاحظة أن المتعارف عليه بيننا هو أن الاجيال الاقدم والاكبر أفضل تعليما وتمكنا، من اللغة العربية بالذات، من الاجيال التي جاءت بعدهم!!.. ولا أريد أن أزيد وأقول أن دوائر الشك ستصيب نظام التعليم في مصر، كما ستجعل مَن يطلبون مدرسين مصريين ليعلموهم اللغة العربية مثلا، يفكرون ألف مرة من الآن فصاعدا قبل أن يفعلوا ذلك. وهنا أُعيد التذكير بما سبق أن كتبتُه في هذا المكان عندما لا حظت كثرة الأخطاء النحوية الفاضحة التي يرتكبها كثير من القضاة واعضاء النيابة خلال المرافعات وتلاوة الاحكام، وخاصة بعد انتشار الفضائيات وقراءة الكثير من الاحكام علي الهواء مباشرة.. فقد اقترحتُ علي المستشار زكريا عبد العزيز عندما كان رئيسا لنادي القضاة عقد دورات تدريبية في اللغة العربية لشباب أعضاء السلك القضائي.. وذلك ينسحب علي قضاة مجلس الدولة والنيابة الإدارية وقضايا الحكومة.. إذ يتعين ألا يكون هناك مكان لمن لا يجيد لغته الأم علي المنصة أو في أي منصب قضائي علي الإطلاق.. وأعيد طرح هذا الاقتراح علي المسئولين عن محراب العدالة في مصر، وخاصة رئيس نادي القضاة الحالي الذي يصر علي أن القضاة خلفاء الله في الارض !!.. وأتصور أن علاج هذه الكارثة يتطلب عقد دورات مكثفة في اللغة العربية لأعضاء السلك القضائي.. وكذلك البدء في عقد امتحانات لغوية معقدة لخريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون المتقدمين للالتحاق بالسلك القضائي علي ألا يجتاز ذلك الإمتحان إلا مَن يحصل علي 90٪ علي الاقل من درجات الامتحان .. أضف الي ذلك ضرورة الإهتمام بتدريس اللغة العربية بكثافة في كليات الحقوق والشريعة.. وحتي تؤتي كل هذه الاقتراحات ثمارها، حال الأخذ بها، فإنه من الممكن الاستعانة بمدققين أو مصححين لمراجعة نصوص الاحكام وتصويبها للقضاة قبل تلاوتها علي الملأ وعلي الهواء مباشرة حتي نتجنب المزيد من الفضائح المُخجلة وغير المبررة. ولكي لا أبدو متحاملا علي أعضاء السلك القضائي، يتعين أن اعترف بأن الاخطاء اللغوية صار من الشائع بل والمعتاد اقترافها ليس فقط من قبل كبار المسئولين والمذيعين والإعلاميين والصحفيين، ولكن أيضا من رجال الازهر وخطباء المساجد والوعاظ.. وذلك يرجع الي تدهور مستوي التعليم العام والازهري، ناهيك عن موجة التغريب وعقدة الدونية التي أصابت المجتمع منذ منتصف السبعينيات، والتي جعلت الآباء والامهات يفتخرون بأن أبناءهم يتحدثون اللغات الاجنبية أما لغتهم الام فلها رب يحميها!!.. ولكن ما جعلني أركز علي القضاة هو خطيئة القاضي أحمد رفعت في حق لغة القرآن .. ولأن القضاء المصري الجالس والواقف كان علي الدوام معقلا للبلاغة والفصاحة والإبداع .. وأخيرا.. لأن الحكم هو عنوان الحقيقة كما نقول، أو هو الحقيقة ذاتها كما يقول الفرنسيون.. وإذا جاء الحكم مكسورا او ملحونا أو مليئا بالأخطاء فربما يبتعد كثيرا عن قدسية الحق والحقيقة.