هروب جمهور الشعر. وانصرافه المزمن عن كل ما يبدع الشعراء الآن. بحيث لا يسمع الشعراء إلا أنفسهم في ندواتهم الأدبية المغلقة. وأحياناً لا يسمعون حتي أنفسهم. وكل منهم يلقي قصيدته ويفر من اللقاء!! هذه الحالة المزرية التي وصل إليها الشعر لم تحدث بين يوم وليلة. بل علي مدار العقود الأربعة الأخيرة.. حدث هذا التراجع والانصراف والهرب!! هذه القضية لم تفرد لها ندوة لمناقشتها. بل فرضت نفسها علي ندوة جماعة الجيل الجديد التي كانت مخصصة لمناقشة ديوان فولاذ عبدالله الجديد: "علي ناصية الشمس.. قصائد حب إلي ميسون".. ورأي المتحدثون في الندوة التي كان ضيفها د. حسام عقل وهدي السيد محمد. ان السبب وراء ظاهرة محاصرة الشعر والشعراء. بالإضافة إلي الجو السياسي المعادي للثقافة في العقود الأخيرة. يعود إلي شعراء السبعينيات الذين ظنوا الشعر أحاجي وفوازير!! وحولوه إلي طلاسم لا يفهمها العامة ولا المتخصصون ولا حتي الشعراء أنفسهم!! وبدلاً من تصدر الشعر للمشهد الثقافي في مصر طوال العقود الأولي من القرن العشرين. في وجود أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمود حسن إسماعيل وإبراهيم ناجي والعقاد.. حتي زمن صلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح جاهين وفؤاد حداد.. بدلاً من ذلك تراجع الشعر إلي أسفل قائمة الابداع الأدبي. حتي بادر بعض النقاد إلي اطلاق مسمي "زمن الرواية" علي الزمن الراهن. وتأكيداً لهذا الواقع. كانت هناك محاولات شعراء آخرين من جيل السبعينيات للعودة بالشعر إلي موقعه الطبيعي. ومن هؤلاء فولاذ عبدالله الأنور كما يقول د. حسام عقل في مناقشته للديوان. ديوان فولاذ "علي ناصية الشمس" نموذج لشفافية الشعر. والوقوف علي الحد الفاصل بين المباشرة والضبابية أو التعمية.. فهو حالة حب دائم وممتد وعميق. تجاه محبوبة هلامية: أحيانا يراها المتلقي وطناً بجميع سماته وأبعاده وجغرافيته. وأحيانا يراها امرأة عنيدة صخرية القلب. يتهافت عليها الشاعر ويطاردها ويهيم بها. بينما هي صماء بكماء عمياء!! ترفض التواصل والإيجابية!! هكذا صورها الشاعر. فبدت عنصراً سلبياً في الديوان ولم يرغب في أن يحولها إلي صوت درامي يأخذ ويعطي ويثري العمل. الندوة حظيت بقبول كبير من نخبة المبدعين والنقاد. ومنهم د. بكر إسماعيل سفير كوسوفا بالقاهرة ود. عادل النادي ود. هشام قاسم وعماد فرغلي وصلاح محفوظ ود. عواطف يونس وعبدالعليم إسماعيل وأحمد فتحي وهيثم منتصر وحسن الحضري ود. أحمد سعد ومها شعبان ورزق فهمي ورضا رمزي ومحمد الدرديري وأحمد عوض ومحمد فايد عثمان ونبيل أبو السعود وأيمن خطاب ود. محمد السيد إسماعيل ومحمد نور الدين الضوي وعبدالله الخولي وعزت عفيفي.. وغيرهم.. وفيها يؤكد فولاذ واقعية التجربة التي عبر عنها الديوان ومعايشته لها. أشار د. حسام عقل إلي أن فولاذ أفلت من جيل السبعينيات ونجا من ضبابيتهم . ومن تجربتهم التي أساءت للمشهد الشعري. وحولت التجربة الشعرية إلي التعمية والابهام وأصبحت قصائدهم تحتاج إلي كتالوج لتفسيرها!! ورغم ذلك وجدت من ينظر لها كإدوار الخراط. وقد أذنت هذه التجربة السبعينية بانصراف الجمهور عن الشعر.. بينما فولاذ. وبدون دعاية واستعراض. ابتعد عن هذه السريالية. وأصر علي خط شعري خاص به. يجمع بين التجديد والتصوف والرمزية. ونموذج "ميسون" تدخل في هذا السياق. توقفت هدي السيد محمد عند الرؤية العامة للديوان من حيث انصهار الحدود بين الأجناس الأدبية المختلفة والتقنيات السردية للنصوص الشعرية من أماكن وزمان وشخوص.. كما رصدت المتحدثة الظواهر الأسلوبية المتكررة في الديوان كظاهرة الرمز والجوانب الخطابية للنصوص الشعرية. أشار د. عادل النادي إلي أن "ميسون" هنا في الديوان تعني المستحيل الذي لا يتحول إلي ممكن أبداً!! ورصد الاستعداد الدرامي الذي يتسم به الديوان وكتابات فولاذ بعامة. ولذا فعليه أن يتجه إلي الكتابة الدرامية وخاصة المسرح الشعري. أكد رزق فهمي علي جناية شعراء السبعينيات علي القصيدة العربية وصرف الناس عنها.. ورأي عزت عفيفي مفاهيم الحرية والجمال مبثوثة في ثنايا العمل. وهنالك مؤشرات عليها كلفظ العصفور وما يعنيه من إيحاءات.. وتذكر محمد نور الدين هذا الحس الدرامي لدي الشاعر منذ قصيدة "إلي أبي من عواصم الموت".. صلاح محفوظ أكد افلات الشاعر من ضبابية التجربة السبعينية وغموضها الممل!! وأدرج د. محمد السيد إسماعيل انتاج فولاذ ضمن منظومة شعرية للقصائد الجديدة الراقية. شأنه شأن فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة. ونجا بنفسه عن القطيعة الجماهيرية التي وقع فيها أبناء جيله من شعراء السبعينيات.. واسترجع محمد فايد عثمان نبوءة الراحل الدكتور محمد أبو الأنوار بشأن فولاذ الذي كان حينها طالباً بالسنة الأولي بدار العلوم. وتنبأ له أبو الأنوار بدور شعري كبير بصفته صاحب موهبة أصيلة. رأي عبدالعليم إسماعيل ان بعض الشعراء حين يصلون للجفاف الشعري. يفتشون في ذاكرتهم من أجل الابداع. وهذا ما فعله فولاذ في ديوانه هذا الذي كان قد تجاوزه فنياً من قبل في أعمال أخري له. ومنها قصيدة "يا بنات المدارس". محمد الدرديري رصد موقف الفارس الذي يقفه الشاعر في هذا الديوان. فهو مهزوم ويعترف بالهزيمة في العشق!! وهي شجاعة لا نلمسها في شاعر آخر.. ويذكر عبدالله الخولي انه يعيش روحانية الدين والحب والصوفية من خلال بحثه عن المرأة والوطن.