لم تفلح الموسيقي العسكرية في إخفاء الآهات والأنين التي خرجت من القلوب الموجوعة أثناء الجنازة العسكرية التي خرجت من مسجد كلية الشرطة القديمة بالعباسية لتشييع الجثمانين الطاهرين لشهيدي الشرطة في الانفجار الذي وقع بمحيط وزارة الخارجية. المقدمين خالد سعفان ومحمد محمود أبوسريع.. فقد كان نحيب التكالي من الأمهات والشقيقات والآهات المكتومة في صدور الرجال من أقارب الضابطين وزملاءهما. أعلي صوتاً من تلك الموسيقات وسرعان ما أصبح صوت المطالبة بالإعدام للجماعات الإرهابية هو سيد الموقف. كانت البداية بحالة من الترقب وعيون زائفة هنا وهناك تنتظر بلهفة وصول الجثمانين الطاهرين إلي مسجد كلية الشرطة بالعباسية محمولين في سيارتي إسعاف حتي تؤدي عليهما صلاة الظهر وصلاة الجنازة.. الأهل والأقارب يصرخون ويبكون والتاريخ يعيد إلي أذهان زملاء الضابطين ما حدث ودار بينهم وبين الشهيدين من ذكريات جمعتهم في هذا المكان أيام الدراسة منذ أكثر من عشرين عاماً حينما التحقوا بكلية الشرطة وهم فتية يتدربون هنا وهناك حتي شهد هذا المكان فرحة التخرج في حفل لا ينساه أي منهم ووضعوا علي أكتافهم "نجمة" وتفرقوا بعدها كل في مهام عمله التي كلف بها ولسان حال الزملاء يقول هنا التقينا وتعلمنا واليوم نجتمع لنودع زميلينا العزيزين لكنها الدنيا التي تفرق الأحباب. تتوقف القلوب عند سماع صوت سيارتي الإسعاف والعيون تزداد جحوظاً تجاه البوابة الرئيسية للأكاديمية وتصل السيارتان ويلتف حولهما الجميع يزداد الصراخ والعويل للسيدات. وكذلك بكاء ونحيب الرجال وما أقساها علي القلوب.. بينما الزوجتان "هبة" زوجة الشهيد خالد سعفان و"جيهان" زوجة الشهيد محمد محمود أبوسريع تمدان الأيدي تحاولان مصافحة الزوج الحنون ولكن هيهات فقد ذهبت الروح إلي خالقها سكنت مع الصديقين والشهداء وبقي الجسد الطاهر بلا إحساس ولا حركة.. والصغار لا يدرك بعضهم هول الفاجعة فابن الشهيد سعفان عمره 3 سنوات "عبدالرحمن" وابنة الشهيد محمد أبوسريع ندي "عشر سنوات" أما نجله عمر فإنه يدرك ما يدور. آه من فراق الأب داخل المسجد تم وضع الجثمانين الطاهرين.. التفت حولهما الأمهات والأخوات والزوجات التكالي حملن كل واحدة منهن المصحف الشريف يتلون آيات الذكر الحكيم ترحماً علي الشهيدين ولا يستطيع أحد أن يتمالك نفسه ولا تسيل دموعه حينما يشاهد "عمر" و"ندي" ابنا الشهيد محمد محمود أبوسريع وهما يمسكان بالمصحف الشريف ويقرآن آيات القرآن علي روح الأب الشهيد ودموعهما أغرقت علم مصر الملفوف به الجثمان ويلقون نظرة الوداع. الأهل والأحباب تجمعت أسرتا الشهيدين إلا والد الشهيد خالد سعفان الذي دخل في غيبوبة كاملة بعد سماع نبأ وفاة الابن والحبيب وحضرت والدته وشقيقاته وشقيقاه ووالد ووالدة الشهيد محمد محمود أبوسريع وأشقائه. شهادة حق أجمع أفراد عائلة الشهيد خالد سعفان علي أن "البطل" كان بمثابة الأب والأخ لأنه تحمل مسئولية إدارة الأسرة مع الوالد وكان حنوناً علي الجميع.. وقالوا: كان الشهيد يشعر باقتراب الأجل في الفترة الأخيرة فقد كان دائم الاتصال بهم لعدة مرات طوال اليوم وكان يسأل علي كل منهم أثناء اجازته.. مشيرين إلي أنه كان يحتضن صغيره عبدالرحمن طوال تواجده في المنزل وكان يتمني الشهادة في سبيل الله وأشارت إحدي شقيقاته إلي أن زوجته "هبة" حامل في توأم والأسرة تحتسبه عند الله ولا شيء يمكن أن يثلج الصدور سوي القصاص من الجناة. أما الزوجة فهي في حالة صعبة الآهات تخرج من صدرها وتوقف النطق عند "حسبي الله ونعم الوكيل" من سيشاركني في تربية أولادي. أما والد الشهيد محمد أبوسريع فقال: "حسبي الله ونعم الوكيل" فقد سرقوا فرحة عمري.. الشهيد ليس ابني فقط وكنا نتشاور دوماً ونتخذ القرارات المصيرية المتعلقة بالأسرة معاً.. وقالت الأم: "لن تنطفيء النار التي في صدري إلا بعد القصاص من المجرمين" ليس "محمد" فقط هو الذي توفي ولكني أشعر أنني فقدت الحياة.. وأكد كافة أفراد الأسرة أن من يريد معرفة الفقيد الغالي يسأل زملاءه الذين أحبوه ولم يغضب أحد منه من قبل. داخل مسجد كلية الشرطة بالعباسية اصطف المشاركون في تشييع الجثامين الطاهرة لأداء الصلاة عليهما فتقدمهم المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء واللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية ود. عادل العدوي وزير الصحة والمهندس إبراهيم يونس وزير الدولة للإنتاج الحربي ود. جلال السعيد محافظ القاهرة ومندوب عن وزير الدفاع ووفد من القوات المسلحة ولفيف من قيادات وزارة الداخلية وعدة آلاف من أقارب وأصدقاء الشهيدين والمواطنين. عقب أداء الصلاة حملت سيارتا الدفاع المدني الجثمانين الطاهرين في موكب جنائزي مهيب يتقدمه حملة الورود ثم الموسيقات العسكرية التي عزفت سلام الشهيد ثم موسيقي جنائزية.. وبعد ذلك اصطف أهالي الشهيدين ومعهما اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية الذي حرص علي تلقي العزاء بنفسه بعد انتهاء المراسم وتقبل أسرتي الشهيدين العزاء من الأهل والأصدقاء تم نقل الشهيدين إلي مسواهما الآخير بمدافن الأسرة. أصر العقيد ساطع النعماني نائب مأمور بولاق الدكرور. الذي كانت يد الغدر قد طالته منذ عام ونصف وقضي رحلة علاج في سويسرا ولندن وعاد منذ أيام فاقدا بصره. علي تقبيل "علم مصر" الذي يلف جثماني الشهيدين وقرأ لهما القرآن وقدم العزاء لأسرتيهما.