الصحافة مهنة البحث عن المتاعب من أجل الوصول إلي الحقيقة.. ولذلك فإنها تتطلب ممن يتشرف بالانتماء لها أن يمتلك عقلاً ناقداً وضميراً يقظاً وقدرة علي التمييز والتدقيق والتوثيق لكي يقدم المعلومة الصحيحة للقارئ. وقد أضرت سمعة الصحافة كثيراً بسبب أولئك الذين يستسهلون فيما يكتبون دون تمحيص.. فيكتفون بما يتردد علي ألسنة العامة.. أو ينقلون ما تبثه مواقع الإنترنت من أكاذيب وافتراءات علي أنه حقيقة.. أو يحتفون بما يقوله بعض المسئولين دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن مدي صدقه. لكن في المقابل هناك من لايزالون يفكرون ويدققون فيما يكتبون التزاماً بحق القارئ في أن يعرف الحقيقة.. وهؤلاء يذكروننا بطبيعة المهنة السامية ودورها.. ويسبحون عكس تيار الاستسهال والاستهبال السائد.. القضية بالنسبة لهم ليست مرتبطة بالاستقطاب السياسي والفكري وإنما مرتبطة بشرف المهنة ومستوي الأداء وضروراته.. وقد صادفت خلال الأيام القليلة الماضية أربعة نماذج سأحاول أعرض لها بسرعة في السطور التالية: * النموذج الأول جاء في مقال الزميلة عبلة الرويني "نهار" يوم الجمعة الماضي بجريدة الأخبار حيث ناقشت بشكل موضوعي ونقدي ما تردد عن كتاب "خيارات صعبة" مذكرات هيلاري كلينتون.. حيث أكدت أن الإعلام المصري حين تعامل مع الكتاب مارس لعبة الترويج لأكاذيب وخرافات ومارس الاستسهال والفبركة علناً دون أدني درجة من الدقة والبحث والمراجعة ودون جهد قراءة الكتاب أو حتي قراءة ترجمته.. وقالت: ما يعنيني هو ضياع المهنية وافتقاد الموضوعية وسيادة الفهلوة. وللتدليل علي ذلك أشارت إلي ما ذكره محمد الغيطي في برنامجه نقلاً عن كتاب هيلاري كلينتون "إن مصر أثناء 30 يونيو قامت بحصار الأسطول السادس الأمريكي حين اقترب من المياه المصرية قرب الإسكندرية وأن الضفادع البشرية بقيادة الفريق مميش قائد القوات البحرية السابق نزلت تحت البوارج الأمريكية ثم صعدوا وأسروا قائد إحدي البوارج.. بعدها تحدث قائد عسكري مصري مع أوباما وقال له نحن لا نريد التصعيد وطالبه بمغادرة الأسطول الأمريكي للمياه المصرية.. وهو ما حدث. ثم علقت علي ذلك قائلة: "الحكاية محض خرافة.. لم ترد في كتاب كلينتون.. ومحض جنون لا يرد هكذا في الإعلام.. إضافة إلي سيل من الأخطاء والمعلومات الملفقة.. فالفريق مميش لم يكن قائداً للبحرية في ذلك الوقت.. وكلينتون ايضا لم تكن وزيرة للخارجية الأمريكية في ذلك الوقت.. ولم يحدث أن اخترق الأسطول الأمريكي للمياه المصرية.. وليس بإمكان قائد عسكري أن يهاتف الرئيس الأمريكي مباشرة وتوجيه إنذار له.. ثم إن كل هذا الهراء نفاه مصدر عسكري مصري رسمياً. وبعد ذلك تساءلت عبلة الرويني: ماذا يحدث في العقل المصري؟!.. ما كل هذا التلفيق وكل هذا الاستسهال؟! ولماذا؟! وأنا بدوري أسأل أصحاب الضمائر اليقظة: هل نحن في حاجة إلي مثل هذه القصص الساذجة المفبركة لكي نحب بلدنا أكثر ونكره أمريكا أكثر؟!.. وأؤكد.. نحن نحب بلدنا بما فيه الكفاية ونكره امريكا بما فيه الكفاية.. وايضا نكره الكذب والتلفيق وتضليل الناس بما فيه الكفاية. النموذج الثاني قدمته "الأخبار" ايضا التي كشف محرراها حسام عبدالعليم ومحمد وهدان حقيقة جماعة "بوكو حرام" الفيوم.. فقد نشرت بعض الصحف خلال الأسبوع الماضي عنواناً مثيراً علي الصفحات الأولي يقول: "بوكو حرام في محافظة الفيوم".. لكن الزميلين لم يسلما بأن ما كتب هو الصدق.. وأنه لابد من بذل الجهد والسفر إلي قرية "الجواهرجي" النائية للوصول إلي الحقيقة.. وفعلاً شاهدوا بأعينهم وناقشوا ونقلوا لنا الحقيقة المثيرة. وأكمل غداً إن شاء الله.