مر كخطفة و أنا أقضم لقمة بلا طعم علي المقهي. و الخطفة حين عبرني أو كاد بجنبه كانت كفيلة برسم طيف "الجويلي" علي جانب خده الحليق. و تبدي بوضوح علي ظهره بانحناءته المتألمة المتأملة. لكن الطيف المراوغ انزلق من الجلباب المكوي. كاشفا طلة أبعد وهلة أعمق. تنزلت من فوق العِمّة المرصعة بالكشمير. ليتجلي " أبو خليفة" في واحدة من فيوضاته. فتقف اللقمة المرة في حلقي. وينفضني البرد الذي أكابده منذ ثلاث. لم تكن " العمال" بشارع المحطة مفتوحة. ولربما أغلقت لأجل غير مسمي. أو أضاعها البرد مني. فجلست علي مقهي مجاور متأففا. والنادل الذي تجاهل جلستي منذ قعدت. و لم يات بالماء البارد. حسب الأصول. لواحد يأكل بلا طعم ولا رغبة. إلا لكي يستطيع تناول عقار البرد علي معدة ليست خاوية. في تلك البرجلة التي كنت منخرطاً فيها. أعاني التجلي المباغت لأطياف " العمال" جاء وسألني عما أرغب في شرابه. قلت بسرعة: شاي. ولم أزد. لأصرف سماجته. ولأنصرف لمتابعة الأطياف المتنزلة في ساعة ضحي فاجرة الحرارة. التفت حيث وجهه العابر الذي كان قد اختفي تماما. فكرت بالقيام والنظر إليه في الشارع. لكن الرغبة القوية بداخلي قالت بأني استطيع رده. وإعادة رسمه هو وأطيافه المتبدلة. وفي لحظة كرم صوفي بالغ. إذا بالعابر يعود في تلك اللحظة. ويقترب ليكون علي بعد خطوة مني. يسأل صبي الحانوت المجاور علي زجاجة لمياة غازية ترطب الأجواء والجوف. وعيني التي دققت ملامحه. وكامل جسمه وملابسه وحذاءه وعمامته. لم تؤكد شيئا. ولم تنف شيئا. فقط وضعتني في الحيرة التي تبدت بها الأطياف التي تجلت علي هذا الدرويش العابر. في خطفة كأنها هاتف غامض جذبها من سبحات سمواتها. أو عمق أراضيها. أينما كانت. العابر يجمع ما بين أبي خليفة و الجويلي. الخال و ابن الأخت. يشبههما. أو يشبهانه. ليس فرق. من نمنمة الحديث الهامس مع البائع. إلي الوقفة غير المستقرة. و العينين اللتين لا تقفان علي شيء. إلي الملامح الطافحة بالبشر وحب الموجودات باختلاف أنواعها. للرغبة الضارية في اعتزال العالم. هذا الهمس الذي يخشي أن يجرح هذا الوجود فيتورط فيه. مع كل لفتة وحركة كانت الأطياف تؤكد وجودها وتجليها الباهر. و"أبو خليفة" يميل ويسألني: كيف حال "إبراهيم"؟ وبسمة مضيئة قد خطت فوق الوجه. فألتفت للشارع لأري أنثي باذخة البهاء تعبر أمام الدرويش العابر. فيفرك أصابعه الطويلة. فيحط طيف " إبراهيم فهمي" و يهمس الصوت بداخلي: يارب البنات والبيوت. وقبل أن أفيق من سكرة الصوت تندي لسمعي صوت عبد الوهاب وهو يئن متوجعا: "يا ورد هون عليك." فتلفت مستطلعا مصدر الصوت. ولم يكن سوي النادل يرزع كوب الشاي علي سطح الطاولة. هتفت لاعنا: شكرا. عاودت النظر للعابر لم أجده. وأطيافي قد فارقوا. فرحت أقلب الشاي وأبحث عن حبوب البرد.