«صلبان وقلوب وتيجان» الأقصر تتزين بزعف النخيل احتفالاً بأحد الشعانين    صندوق النقد يتوقع ارتفاع حجم الناتج المحلى لمصر إلى 32 تريليون جنيه 2028    محافظ الجيزة يوجه معدات وفرق النظافة لرفع المخلفات بالبراجيل    وزير خارجية إسرائيل: سنؤجل عملية رفح إذا جرى التوصل لاتفاق بشأن المحتجزين    خبير: التصريحات الأمريكية متناقضة وضبابية منذ السابع من أكتوبر    إدخال 4000 شاحنة مساعدات لغزة من معبر رفح منذ أول أبريل    "لو تحدثت هتشتعل النيران".. مشادة كلامية بين محمد صلاح وكلوب    لمكافحة الفساد.. ختام فعاليات ورش عمل سفراء ضد الفساد بجنوب سيناء    30 أبريل.. أولى جلسات محاكمة المتهم بالشروع في قتل طالب بالنزهة    ياسمين عز تُعلق على شائعة طلاق أحمد السقا وزوجته: هو أنا لو اتكلمت عن الحوامل أبقى حامل؟!    حزب "المصريين" يُكرم هيئة الإسعاف في البحر الأحمر لجهودهم الاستثنائية    خبير ل الحياة اليوم: موقف مصر اليوم من القضية الفلسطينية أقوى من أى دولة    توقعات عبير فؤاد لمباراة الزمالك ودريمز.. مفاجأة ل«زيزو» وتحذير ل«فتوح»    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    الرضيعة الضحية .. تفاصيل جديدة في جريمة مدينة نصر    استهداف إسرائيلي لمحيط مستشفى ميس الجبل بجنوب لبنان    المصريون يسيطرون على جوائز بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية للرجال والسيدات 2024 PSA    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    بالفيديو .. بسبب حلقة العرافة.. انهيار ميار البيبلاوي بسبب داعية إسلامي شهير اتهمها بالزنا "تفاصيل"    ناهد السباعي: عالجنا السحر في «محارب» كما جاء في القرآن (فيديو)    سؤال برلماني عن أسباب عدم إنهاء الحكومة خطة تخفيف الأحمال    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    بعد جريمة طفل شبرا الخيمة.. خبير بأمن معلومات يحذر من ال"دارك ويب"    رامي جمال يتخطى 600 ألف مشاهد ويتصدر المركز الثاني في قائمة تريند "يوتيوب" بأغنية "بيكلموني"    رئيس الوزراء الفرنسي: أقلية نشطة وراء حصار معهد العلوم السياسية في باريس    أحمد حسام ميدو يكشف أسماء الداعمين للزمالك لحل أزمة إيقاف القيد    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان.. صور    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    فوز أحمد فاضل بمقعد نقيب أطباء الأسنان بكفر الشيخ    «صباح الخير يا مصر» يعرض تقريرا عن مشروعات الإسكان في سيناء.. فيديو    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    الشرطة الأمريكية تفض اعتصام للطلاب وتعتقل أكثر من 100 بجامعة «نورث إيسترن»    رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة جراء سوء الأحوال الجوية    الكشف على 1670 حالة ضمن قافلة طبية لجامعة الزقازيق بقرية نبتيت    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    «تملي معاك» أفضل أغنية عربية في القرن ال21 بعد 24 عامًا من طرحها (تفاصيل)    مصر تواصل أعمال الجسر الجوي لإسقاط المساعدات بشمال غزة    مدير «تحلية مياه العريش»: المحطة ستنتج 300 ألف متر مكعب يوميا    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    قطاع الأمن الاقتصادي يواصل حملات ضبط المخالفات والظواهر السلبية المؤثرة على مرافق مترو الأنفاق والسكة الحديد    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    تعليم الإسكندرية تستقبل وفد المنظمة الأوروبية للتدريب    السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية ويجري حوارًا مع الطلبة (صور)    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    إزالة 5 محلات ورفع إشغالات ب 3 مدن في أسوان    «شريف ضد رونالدو».. موعد مباراة الخليج والنصر في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المنشد
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 09 - 2011

رأيته، ودوماً كنت أراه كرجع الصدي. يمرق كشبح أزلي علي عربته الكارو بروح مقاتل انسحب من الأساطير القديمة. مجلجلاً بعريض صوت يموج في حلقات تتسع وتتصاعد بهالات من رؤي تتخايل بملامح غائمة، وتتلاشي. هائماً ومخترقاً كوناً ضاق به، كأنه يطارد شبحاً إلي زاوية العالم. نوع من دفء ينضح من جسده كأنه البخار يجعله يتخفف، كأنما يهج من جسده العفي .
له بنية تمثال ميداني بهيئة سرمدية، وملامح صادرتها أزمنة قديمة رشحت بظمأ صحراوي وتركت للندي أن يرطبها كنوع من توبة أبدية. وفيما يمرق بعربته أراه كجمع غفير كأنما أصوات خفية تزاحمه إذ يتحد بصوته. شيء يزغرد في الأرض بمكنونها علي سكون لحظتها، كأنها عثرت علي سره الدفين، فتقفز أشباح من تراب تثير زوبعة. وفيما يبتعد إلي نهاية الشارع وقبل أن ينعطف إلي ناصية الشارع أراه طفلاً يشاكس رؤاه، ودوماً هناك طائر يحط علي عربته. يحلق حوله وينقر شيئاً خفياً حول رأسه ، يحوم ، ويعاود، ويغيب.
كثيراً ما صادفته علي النواصي يقف وينشد للاأحد كأنما يردد صوتاً خفياً بصوت حي. والذي لم أدركه أكان يمتص الأصوات من حوله ويعيد صورتها بصوته؟ أم كان يدفع بصوته كي يخترق الأصوات. عالم من دهاليز تراوح ما بين النور والظلمة، تتماوج علي ملامحه وتتلاون بصوته كاحتمال مؤجل للحظة قادمة. في الموالد ينشد وحيداً كأنه القصيدة واللحن والرؤي القادمة، غير عابئ بالضجيج من حوله. أو وحيداً علي أطراف البلدة يمتد بصوته في الفراغ كامتداد لجسده في الطلق، فيتسامي. وبالقرب من الجبل الشرقي للمدينة، الرق في يده يصلصل طارداً غبش الضجيج إذ تصفو الروح وتحلق. مفسحاً الطريق لنغمات إنشاد ويتمايل، وأحلام تتداعي أراها في جفنيه المثقلين وقد أنهكه هدير علي شفاه ظلت ترتعش برف حواف شاخت قبل أن تبلغ طفولتها .
يدمدم في كياني صوتي الضائع في جسدي. شيء من الارتجاج الذي يعاودني، وأنا طفل لقيط علي عتبة بناية لم أدرك ملامحها حين كنت قطعة لحم ضئيلة. كلما لمسني شخص ما يعاودني حس اليد التي التقطتني طفلاً. متي أدركت ذلك؟.لا أدري!. كلما بكي طفل يترجع داخلي نباح جوعي. وذلك البرد يعتري قطعة من ورم لها نفس إنساني طازج بعيداً عن صدر ُيرضع أو يحتضن ما بعد ظلمة الرحم. ذلك الفراغ الواسع وقد أفزعني. فزع بلا ملامح. وأصوات تتدافع واشباح تتراءي كوهم لم أدرك مداه بعد. جسدي الصغير يمتص الأصوات ويدفعها. وأنا أطلق الصوت الأول مني كنوع من النور يضيء ما بعد ظلمتي والرحم الطارد، وقد أصبح خاوياً ينادي العود. أنا بلا سائل يحتويني والعالم بارد.
لابد أن نساء كثيرات تداولن رضاعتي ومنحنني دفء احتضان لم يبرأ من أمومة فياضة. صوت خفي يسوخ في روحي كلما رأيت امرأة ترضع طفلاً. وللنساء شف الأطفال علي رؤي الخبيء. حس من لمس مسرف في حميميته يتواصل بلغة خرساء . حمي من أنوثة تحتمي بأمومة وتسحب من نخاعها عصير جسد تخلي عن أنانيته لبناً. ومن قبض طفل جائع علي حلمة الحياة تنسحب بشبق العودة إلي طفولتها الأولي ، فتتجدد. جوع يشبع جوعاً. وصمت يرضع صمتاً. نساء من حس صامت يتجلين كروح هائمة.
حين بدأ صوتي يتشكل تمنيت أن يعبّر صوتي عن ملامحي التي لم أطالعها إلا رؤي علي غيم. وكنت أحاول أن أستبدل وجهي بصوتي. صوتي بملامحي التي كان الرجال يرونها فظة، فيما تنجذب النساء إليها ويتحسسنها كلفح ريح علي رغبة. أكان صوتي ملامحي التي أصبحت رجع صدي لكركرة اللبن في حلقي. ذلك النهم للامتصاص لطفل جائع وقع علي صدر فائض بين طارد وماص. أكان متعة صامتة متواطئة علي رغبة برية لم ولن تبلغها امرأة من رجل؟ خيط من مصيدة الصمت يتواصل في مراوحة بين خيط سُري لم ينقطع بالولادة ظل محوماً كقدر، فاعلاً كموهبة لا تحتمل انقطاعاً. جوهرة صوتي تلك التي خرج منها أول مصافحة لعالم مجهول سيطاردني، جعل عري الصوت يستبيح فضاءً مباحاً يحملني علي الريح ويهدهد وجعاً لم يبح. صمت، واستراح.
وفيما الصوت يتسلل مني إلي وسع العالم. ثمة ضوء ينبثق داخلي وتتسع دائرته، وتتخلل خلايا كنت أتصور أنها ماتت. وكلما حاولت محاصرة صوتي كي لا أضيع في عالم يتسع إلي حافة الغامض، يطاردني فراغ ينسحب بي إلي مشاعر أحسها تنبض كرجع صدي لتاريخ قديم يعبرني في صور تتماهي ألوانها، وتتكاثف وتتداخل كهاتف بعيد حتي لا أدرك المسافة بين الصوت والصورة والحيوة في اللحظة التي كانت يوماً.
دبيب قدمي علي الأرض الصلبة وأنا أنشد يمتح من الأرض عمرها اللازمني، وأنا أدق الأديم كي أثبت لحظتي أو أنتزعها من الزمن السائل بي عبر جمود جسدي وهو يتحلل في زمن سحيق إلي ظل رائحة هفت لها نفسي فصارت أريجاً في لحظتي التائهة. نفسي إلي نفسي، مني إلي وقد باحت بالرؤي.
لا تشبع نفسي من الرؤي، فكلما ارتوت عطشت، وكلما امتلأت استباحت المدي ولا تكف عن التحديق في الآتي، أو مداعبة لمس الأشياء التي لم اعتبرها. لا تتصوروا أنني هائم لم يلامس الضحك. حياتي عبث وحياة من حولي وإن كانوا يتوهمون. أحدق في البشر فأراهم يسخرون من أنفسهم كي لا ينفجروا، ويضاحكون الحياة كي تضحك لهم ولو بالوهم. كنت أدرك أنني لست أكثر من زائدة دودية في عالم تغني بغرورفيروسي. سميت نفسي (لا بأس) وصرت أردده دون خجل فتخففت من أحمال أثقلتهم. وكانوا يضحكون، وأنا أضحك من نفسي وعليها. وكنت أعرف أنني علي الهامش وسأظل، ولم تداعبني يوماً أحلام ما بعد. وكنت أردد في نفسي (المتغطي بالأيام عريان والمتلحف بالأحلام دفيان). وبشكل غائم ادركت أن للروح رهافتها فإذا ثقلت فالوطء موت علي استحياء. وشيء يدفعني بالموت رغبة حياة تدافع بالوجود طالما هو موجود.
من فرط اتساع مدي صوتي وتمدده في أنحائي، حاولت أن أطرده في فقاعات تحرره من جسدي. وبقدر تحرر جسدي من أسر صوتي خلق جسداً شفافاً داخل هيكلي وأحكم أسري. حين يدمدم دقاته الأولي أستشعر كياني يدبدب علي أرض احاول أن أنتمي إليها. وأتوق أن أسقط في كثافة لحمي وعظامي. وأدرك كأنه لم يكن حقيقة. كم هما كثيفان؟ وأرغب لو أبلغ بهيميتي المؤهلة للذبح. صوتي المطارد للحمي الحي خاصم جسدي وجعله كشفٍ علي نفس. وصرت روحاً مطاردة. وفي كل مرة أُنشد أشعر أن صوتي ضرير يتلمس حواس الضوء دون أن أبلغها. فأنشد أكثر عليِّ أبلغ النشوة وألمس حافة الضوء القادم. شيء ما يرق وينحني إجلالاً لِمَ لم أدرك من الأيام.
وأنا أحاول الانفلات من خرس طفولتي الأولي. وبجهد لا يقدر عليه إلا طفل ينتزع نفسه من براءة الصمت إلي خطأ الكلمات أو خطيئتها. بجهد أن يتكون الحرف علي الحرف ليمتلك زهرة الكلمة الأولي. تدبدب الحروف في فضاء أرغب من رف جناحات الفراشات، وأوسع من مدي لحظتها، فيحاصر الارتجافات علي أوائلها كي يقتنص الحرف علي رؤي تتبدي. وحين تلفه لحظة الصمت إلي الخلق تتكون الكلمة من دَهَش جرح هالة تنطبع كبصمة أبدية لن تمحي.
تلتصق الكلمات بهوام شهواتها فتتوالد. تصطخب الكلمات في بئري. وفي لحظة لا أدركها ولن، تنزلق الجملة الأولي من عماء الصوت علي مطلقه ودون عائق. فأقفز وكأن الكون قبضتي. أمضي بطفولتي والكلمات تطارد بعضها وتطاردني. لكن أحداً لا يسأل الكلمات الخارجة. حمقاء، رعناء، أو مدهشة. للطفولة مجونها
البريء، وكل الخطايا مغفورة. فجأة أصحو علي الكلمة الحرام، والكلمة الخطيئة بلا مغفرة، علي الكلمة الجريمة. أرتبك وتصبح الأيام هي الاختبار لصوتي الحي. والكلمات تتدافع إلي أن أنطوي عليها. أخاف من معرفتي فيحتبس الصوت ويصير اللسان خرقة في فم متهدل، وكلما زاد الصمت اعتقد الآخرون أنها الحكمة. لكني كنت أخبئ صوتي للحظتي .
لا ندرك معني الصمت كما ندرك معني الصوت. مازلت أذكر الرجل الوحيد الذي احتوي غربة طفولتي وقد شُل وتهدل لسانه. وهو ينتزع الثأثآت من جسده العاجز. كانما يعود طفلاً يستخرج أوائل الحروف من خلاياه. الفارق شاسع بين طفل يستنطق عالمه من خلايا تتكون فيطرد دفئها الوليد ليستقبل برداً يطرده بدافق دفء لا ينتهي، ينضح ولا يكف. وبين عجوز يجاهد أن يدفع برودة أيامه وجلط الدم لا يستكمل دورته. جسد عاجز يستجدي دمدمات الحروف المختزنة تدفئ الأيام القليلة الباقية.
امرأة حياتي كانت صوتي الذي خبأته للحظتي، وإنشادي الأول في دمي. عبر جسدها تعلمت تصفير الشفاة في الجسد الحي. بأبأة جسدها النابض حين اجتاحتني بوهجها. كنت أجوس بشفتي ولساني الساكن. تُري كيف يصير أفعي طيبة منزوعة السم تريق دسم العطر وتستنطق الخلايا. أنفي المستنشق لبخرها صار نبتة برية، فحلق إلي لغة غير مستعادة وغادر جذوره. أزحف وأتحسس مواضع الرؤي إلي الجسد الزاحف علي زحفي. حس جسدها ضوء يبرق في القلب لغة لم أعهد. ورؤي تفتح للوجود زخماً ضاق عن خبيء كهوفه. كانت طفلي علي حروفه الأولي، وكنت ثأثأتي علي أعتابها. كيف ينطق الحرف في الجسد روحاً تسح في الخلايا؟ أيصير اللحم في اللحم آية تتمجد ببخر أشباح تنفي أجسادها لتقاوم الفناء؟ كأن الجسد ينتحر بالجسد ليتجلي إلي صوت يتلاشي في رحيل الدمدمة.
حين نظرت في عينيها كانت خجلي. كأن جسدها لم يكن زبدي. كأني لم أكن منذ لحظات في لجتها. حين أطلت كنت قد أطرقت، لكني كنت أسبح فيها وأدرك اطلالتها وأحتمي. فإذا الصمت أطل أحبو إلي موضعها. امرأتي. بهجتي والحمأ الذي أطلق صوتي.
هي صوتي الأول والقرار والمنتهي. حين تمازجني وأمازجها. تراوحني وأراوحها. ترتكز علي أشواقي، أرسخ علي محورها، وننتفض علي مغاراتنا الدفينة. يتواتر منا عواء حيواني بهيج. عواء براري لم تمس. نقي. زهري. له اللون الذي لم يخلق للألوان. ومجن التجلي إذ تنسكب الأرواح في صمت بقعة الحياء، فتنطق الآه الدفينة بطعم الصلاة.
تساربني بمس لمساتها، تُنبت شعرة الصوت الأولي. صوت لم يخرج من قبل. كأنما خروج رأس طفل من رحم ضيق إلي وسع الحياة. شيء يعتصر الروح كي يخرج الصوت عن صمت مقيم. وهم كامل لشبح يقفز فجأة إلي لغة هي داخلي تبحث، فيترقرق لسان ويردد. جسدها عميق الغور في جسدي ينطق أصواتاً كانت تتهامس في كهوفي وتنضح بأغشيتها. تتسارب الكلمات الخارجة مني تصادم الكلمات المحفوظة. والمدائح المتدافعة شعراً تعلو علي كلمات حياتي المنهمرة وتتصافي علي طراوة اللحظة، فيتقاطر من صفوي لحظ شعر لم أدركه وظل يلاحقني. أعرف أني رجل بسيط. الإنشاد علمني عالي الكلمات فلم أسافلها، واللحن ضبط إيقاعي. رغم بساطة حالي لم أشبه أحداً، ولم أرغب. ربما كانت تلك غربتي أو مأساتي. بساطة اغتنت بحواس استشعرت الخوافي، وتواطأت علي رقائقها في حواشيّ وحواسي.
كهف الأصوات ينضح. لا أعرف مكمنه. أيأتيني من كون لم أدرك خفاياه؟ أم ينضح من سحيقي؟. شيء يهمس لي وأنا التمس غرس يدي في تراب حياتي "أنت الرؤي، والكون لا يكون إلا بك". أراني ضئيلاً لكن قلبي يتسع للعالم إذا تناغمت الأصوات. منذ زمن لم تعد تأتيني الأصوات علي اكتمال حروفها. رجع الأصوات علي صفائحها الأولي يرشح من شروخ بصمة الصوت فتتدافع غمغمات، طقطقات، سهسهات، رغرغات الطفل الأولي تصافح خشخشات عجوز أكلته الأيام. أنا لست نفسي إذ ينطلق الصوت. كائن خرافي يسكنني ويستبيح كوناً لم أمتلك سوي حجمي في فراغه، وذوبان حروفي في فضاء ليس أكثر من نقطة تناجي نجمة في ظلمة ليل حالك كي تتبدي.
في الحضرة كنت بقدر توحد الأصوات أشعر أنني نبتة برية. شيء ما في الأصوات المتوحدة يصاعد غربتي. ظمأ يمتص زوايا جسدي ولا يرتوي. شيء يرتد بي عن نفسي ويفصل صوتي عن جسدي. أكان جسدي ينفصل عن صوتي أم هلامي؟ تلك الحركة اللاهثة لجمع الأجساد في تطوحها خلاصاً من رعب الأصوات المتزاحمة والمتزاخمة في الأجساد. تدافع يتعارك خارجاً من زفير كأنه عراك اختزن دم العالم، وحاول أن ينفجر.
اللحظة التي انفصلت عن الحضرة كانت أعلي مراحل التجلي. وفيما كنت أطوح برأسي وجسدي رأيت من حولي أصناماً. تماثيل تثبتت في لحظتها. أتوقف الزمن أم انفتح جرح العالم في حدقة عيني؟ أذكر أن صرختي كانت هائلة. ورأيتني كائناً من بخار، وكنت أتلاشي. غبت زمناً قبل أن أستعيد، ولم أعد للحضرة.
من وقتها لم أدرك انسلاخ الضوء عن جسدي. ذلك الهلام بين لحمي الحي والضباب الخارج منه يتشكل. صوتي الخارج مني والذبذبات في ترجعاته، والأصوات في تردداتها من حولي. لا ينقذني إلا رجع صوتي إلي لهاث حلقي. أخرج. أنشد في الأسواق. في المقاهي. أشرب الينسون فتغتسل حنجرتي. أقف. أغمض عيني. يتوه العالم. ومن الظلمة يبدأ البصيص كفرز العرق. شيء ينضح زاحفاً، وكلما اتسع أتلاشي. والنبر يصاعد هش قلبي. أحاول أن أتماسك كي لا يغيب، فأعوي تحت حواسي محاولاً القبض عليها. تهرب وألاحقها. تباغتني النغمة الأولي والحرف الأول. يقفز الموت أمام عيني كأول الحياة أو احتمالها الراحل في الثنايا.
أساقط لحظتي في وجودي الحي ، فتضرب أصابعي لحم الجلد الميت للرق فيطل بصيص الحياة. تشب منابت الشعر في جسدي وترعي. أنداح إلي لحن لا يتوقف بي. لا أرغب سوي امتصاص صوتي في الآخرين. خروجي من حلقي. وتلاشي بخاري في أفق يمتد بي أبعد من حدودي إلي كون بقدر ما يجعلني أتلاشي يختزل نفسه في صفق الروح، ولا يتجلي إلا نفثات من لحن خبيء.
أهرب من الأصوات الزجاجية والرخامية إلي صوتي. أحب الزجاج إذ تتراءي صورتي عليه . ملمس بارد لكنه يستدفئ بالبشر ويشف بالصور. لكن الأصوات الزجاجية لا تشف. تنكسر كحطامه، وهناك من يعشق الحطام. أهم من حطام يعشق حطاماً؟ أنا لا اتوهم الأصوات فقد دمدمت في جوانحي واصطخبت. وأعشق لحم الرخام علي لحمي الآدمي. لكن الزجاج يختبئ في حنجرتي ، فيجرح وجدي ويبطئ الضوء ويتبدد زغب، إن لم أمتصه أصير غشاء في فراغ. والرخام علي كريم برودته لا يجلجل في الحنايا لينطق رغب همس. شيء بارد فيهما لا ينطق دمعاً أو يرف جفناً أو يطلق جلجلة ضحكي مني. من أيامي، وارتحالاتي، أو الضوء الصغير يفتتح يومي كي أغلقه علي ظلمة جفني والحلم الآتي، فأستريح.
أنشد نفسي لنفسي كي يصير صوتي كالهواء السارح في اللامدي وأضيع في اللامنتهي. وتراءت لي مشكلتي. أنني كلما أطلقته في المنتهي عاد لي. وأعثر علي نفسي فأضيعها من جديد فترتد إليَّ. وأحاول أن أعثر علي قدري، فأعثر فيه. يشيخ الزمان في لحظتي العاثرة. وأخالص رعبي من لحظتي، فأعاود الإنشاد علّ روحي تفارقني وأنتهي من عذب وعذاب جسدي وانكسارات الأصوات، وأنتهي في المنتهي بلا انتهاء. لا الصمت يرحم الصوت عن مفارقه، ولا الصوت يصامت الصمت علي كوامن حروفه. والنفس عرافة تبحث رؤاها. جرح في الزمن يعطي للأيام شرخ الصوت، ليس لحنه أو القادم من مداه.
كلما أطلقت صوتي عاد إلي جسدي انطفاء. لم أتحد بالمنتهي ولم يفارقني. أعود إلي لحمي الحي. أدافئ امرأتي وتدفئ وحدتي وتستدفئ بي. تحيطنا هالة من دفء ترتج بنا. رشح ساخن يخارجني ويتخارج منها. ينفتح وسع حياة أدركناها بالحواس شبق تقدس علي آهة أخيرة. أدركناها أو لم ندرك. تبدت كسحابة عملاقة تتمازج وتنفرط. لا نري. نعود إلي صوت ملامحنا الأولي ونندهش. ننظر في وسع عيوننا إلي بريق الأحداق. لا تري. تحس. ترتعش. أنحن؟! ومعلق سؤال يعاود رقصته الأخيرة. كي تنبت زهرة تشم روعة أحشاء روائحها، إن لم تصمت قليلاً. أتقدر.
أصامتها في اللحظة المقتدرة. تصامتني. وحس العيون ينطق بالرؤي تجس الرؤي. تفتح عبر أجسادنا رائحة من صوت دفين لم يشهق من قبل. نلتصق في ابتداء هو انتهاء. لحظة قدر تنداح بآخر خيط من صوتي في إنشاد لم يتجلّ من قبل، ولن.
كان صوتي حافتي الأخيرة كنوع من السقوط في فورتي، وجسد امرأتي يتلقفني ويرحل بي إلي سماواته. رغبة الأشواك علي سن إبرتها. إغراء غز الصوت في انطلاقته، أو ارتعاشته. كأنما هو شبح يختبر المسافة بين هلامه ووقعه. وأنا هلام يداعب ملمسه كي ينتفض إيقاعاً، ربما يتحقق علي بساطته فتنداح مساحة مظلمة وألتمس النور في عميقي. بئري الذي لم أدركه. واتدفأ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.