أقيم في قاعة «أفق» واحد للفنون عرض للفنانين عصام معروف وعمر جالياني تحت عنوان «الملهمة» وبدءا فإن العنوان بدا ساذجا للغاية ونمطيا لا يكشف أبعد من السطح خاصة مع أعمال الفنان عصام لأن لوحاته بدت بأبعاد أعمق من مجرد أن يكون إبداعه متوقفا علي لحظة تلهم الفنان شخصية ما كي يرسم فيرسم كرد فعل مباشر لما أمامه.. وذلك لما في لوحاته من أبعاد نفسية وحس ميتافيزيقي .. وفي الوقت نفسه تحقق أبعادا روحية تجد تداخلات مادية فيزياقية. و«إيميلي» ليست ملهمة بل هي صورة للوجود عند عصام معروف وهي عالم لوحاته أو عالم الحلم المرئي لديه.. ومعا تحولت إيميلي حبيبة وزوجة الفنان إلي مرادف سحري للأسطورة التي من روعة استمتاعه بمطاردة كل إيماءة منها بديا معا مثل «بان» و«سيرنكس» وكان الإله بان في الأسطورة الإغريقية قد عشق الحورية سيرنكس وكان يطاردها ممسكا بقصبات المستنقع علي ضفاف الماء ويظن أنه أمسك بها وكانت القصبات «الغاب» تنقل صدي أشجانه وترسلها في الهواء آنات رقيقة حزينة وقد فتن «بان» بحسن ما سمع من أصداء فصاح بحبيبة «سيرنكس» قائلا:«فليبقين حديثي معك علي هذا النحو إلي الأبد».. وهذا ما يفعله الفنان عصام أنه يبقي وجود إيميلي في عالمه الفني وجودا محققا وأيضا غير مكتف به إلي الأبد.. وقد ابقاها في لوحاته وجها يبلغ جمالها الذروة فقط في قدرة تعبيرها علي تحمل عذابات الوجود اللاملموسة. و«إيميلي» عصام معروف تختلف عن «جالا» سلفادور دالي وعن «جاكلين» بيكاسو وعن «نوار» صفوان داحول السوري، فوجود «إيميلي» يشبه مقطعا للحالة الإنسانية في روايات ما بعد الحداثة خاصة وما تستدعيه من تدفق تيار وعي لإيميلي ذاتها ندركه بتعدد مقاطع وزوايا إيماءاتها وتلقيها الوجود في انتقالات ناعمة كالوعي الذين يطفو فوق الوجه من حال لحال.. وكل لوحات عصام هي «إيميلي».. لكنها لا تتكرر لأنه دائما ما يعتمد علي فكرة التقاطع والتشابك البصري اللذين لا يمكن أن يتماثلا من لوحة لأخري بما يعطيه من ردة فعل لدي المشاهد بما يحقق الفنان الرؤية من أكثر من زاوية محاولا شمول العالم.. ويمكننا أن ندرك خاصة في المقاطع الثلاثية والخمسية لوجه «إيميلي» أن جعل عصام اللوحة فخا للنظر.. وفي الوقت نفسه تقاطع وجوه «إيميلي» وأجسادها ونحن خارج اللوحة نجد أن داخل منطقة التقاطع البصري بين الداخل والخارج وكأن «إيميلي» نفسها في مجابهة «إيميلي» جديدة تنظر إليها من منظور من نقطة منعكسة في مرآه علي التواز لنجد هذا الجسد المائل الغريب أمام «إيميلي» هو «إيميلي» نفسها ثم ندرك أننا أمام سلسلة من الأجساد المادية تمثلها رمزا .. وما بين الموضوعي والبصري يجعل لنا عصام المرئي هو هذا الشيء اللا متوقع في بساطة مفرطة إلا أنه ليس بسطحي. من أعمال الفنان الكبير أجده مجتهدا وجادا في التركيز علي وظائف الرؤية وزواياها ومنظورها بما انعكس علي انطباعنا بماهية «إيميلي» الوجودية .. فالنظرة في حد ذاتها هي إبهار ووظيفة ومصيدة للتحقق وفخ للمشاهد قابل للإخفاء بتلك النظرة التي تظهر ضمن اللوحة كشبح مضاعف أو تبدو أنها تلمح وتومئ إلي مجهول نصب من نفسه فخ لإيماءاتها التي استطاع الفنان أن يشوه ويلغي الحدود بين نظرة إيميلي والمشاهدة لأنها فُقدت بالداخل .. وربما هو استنفار منه للمشاهد للقبض علي اللامرئي.. وقد يكافئ المشاهد نفسه مكتفيا بقول :«رأيت وجهك» ليثير الفنان بحس الفنان قضية وجودية يقودها الشك.. يدفعني هذا لأجد وجوه «إيميلي» تثير أزمة وجودية لدي المشاهد أو أزمة وجود إنساني .. وقد نتساءل إن كانت مختلفة عن واقعها وتدرك مصيرها؟ وهل عصام «دون كيشوت» يخوض حروبا خيالية للانتصار علي انفلات إيماءاتها من لحظة لأخري؟ أم هو مثل «بان» كلما طارد وجودها كلما أحاطته أنات لنغمات رقيقة حتي أصبحت هي ذاتها نغمات يحاول القبض عليها خطوطا وحالات محققة بصريا فوق اسطح لوحاته؟ من جانب آخر .. لا يمكننا تجاهل وجود نرجسية أساسية للرؤية في اللوحات.. أما الأكثر عمقا من النرجسية ألا نري شيئا بالفعل.. وربما لوحاته هي حالة من الهج0رة للداخل ربما للإغواء .. أو الأسر.. أو رغبة العزلة في الخيال .. لكن هل يصبح المشاهد طويلا متورطا فيما يراه؟ هل يجد نفسه في إيميلي التي لا يدرك إلي أين يتجه نظرها فتتضخم نرجسيته في قيادته وتحكمه في مشهد الرؤية.. إلا أن ذلك الكم القدري الذي يسكن وجه ويراوح نظرة إيميلي يجعلنا لا نعرف من الذي يري ومن الذي يُري.. ويؤكد هذا ماديا اعتماد الفنان المتمكن من قيادة ادراكاته كي تسيطر إيميلي علي المشاهد حتي دون أن يري عينيها بتلك الأحجام الضخمة للوحاته التي يظهر أمامها المشاهد خارجها حائرا لا يحيط بها تماما مهما كان موقعه مناسبا للرؤية.. فالفنان يدرك حدود الرؤية الإنسانية ويعمد إلي التضخيم من وجودية إيميلي متذرعا بحدود جسدية المشاهد وحرية حركة النسبية أمام اللوحة.. ليصبح هذا التواجد للمشاهد في حيرة بين الشخصي والموضوعي ففي لحظة يبين المشاهد فكره لعالم موضوعي بينما يتواجد هو في الخارج.. ويصبح كرد فعل تساؤل .. «هل تتواجد إيميلي كشيء .. أم كوعي؟» وفي تبسيط أكثر من تجربتي فإنني يخالجني احساس وأنا أمام «إيميلي» في حدود عالم وجودها كبير الحجم كما اللوحة أجدني أراها داخل بيئة روحية كبحر يتهادي ويلمع تحت سماء ذات شمسين.. وأراها تذكرني بما في رواية «ساحر الصحراء» لباولو كويلهو من مشهد لأبدية الصحراء حيث رمالها تحركها الرياح وتتشكل مع كل رياح كثبان وأشكال رملية جديدة ما بين لمحة وأخري .. ولكن تظل الصحراء هي الصحراء.