معرضه بدا هرمي التركيب الذهني والمفاهيمي.. ذا وجوه ثلاثة راسخة فوق قاعدة واحدة، القاعدة هي الرصيد الفني للفنان جمال مليكة وارتباطه بهويته المصرية رغم بعد المسافة الزمانية والمكانية التي بلغت 35 عاما فوق الأرض الإيطالية، أما الأوجه الثلاثة لمعرضه الهرمي التي تلاقت في نقطة واحدة أعلي قمة الهرم كانت بمعالجاته للمسطح كوجه أول، والتركيبي المجسم كوجه آخر، والتشكيل الفراغي الخطي كوجه ثالث، لتلتقي الرؤية في نقطة واحدة ذات ثراء ممتد في معالجته ورؤيته المفاهيمية لمعطيات معرضه المقام حاليا في مركز الجزيرة للفنون الذي افتتحه فنان مصر الكبير فاروق حسني وزير الثقافة ليراه كمعرض لفكر عمل تركيبي داخل صالة عرض واحدة.. وما رأيته من زاويتي يدور حول فكرة البقاء والقفز من حالة لأخري كأن العرض هو سباق تخطي حاجز بعد آخر، وأقصد التخطي بتخطي الفنان للحاجز المسطح من فوق سطح اللوحة إلي الحاجز المادي بتركيباته الجبسية إلي الحاجز الفراغي بتشكيلاته الخطية وليقفز هذا الفراغي في عودة إلي المسطح مرة أخري، وهكذا يبدو عرضه دائرة متصلة لتدفق تيار الوعي أو ربما لتصادم موجات متلاحقة متلاقية لتحقيق حالة توحد بين ثلاثة أوجه للبصرية الذهنية لتلتقي عند أعلي قمة الهرم، والهرم رأيناه مفاهيميا في فكرة المعرض ورأيناه بصريا فوق مسطح لوحاته بظهور العديد من الأهرامات المرسومة خلف وحول شخوص لوحاته في دينامية بين اللون الساخن وتقطعات أنفاس خطوط وشرائح فرشاة اللون في التفافها لتشكل جسد إنساني، وهذا الجسد الإنساني هو نفسه الجسد خارج اللوحة في صالة العرض في تركيبات الفنان للنحت الجبسي المباشر لشخوص انجزها داخل صالة العرض وقد كونها من شرائح لشرائط من الخيش مغموسة في الجبسي حول كيان متماهي بتشكيل به هيئة إنسان في حالات نفسية مختلفة نستشعرها في أوضاعه الخارجية وفيما يعتمل بداخله ونري ما بداخل الجسد دون تفاصيل بل ببقايا تفاصيل وجود، وقد صنع الفنان تركيباته في تلقائية عفوية تتسق وانفعالية خامة الجبس السائلة الرطبة للتشكل وبين خامة الخيش المتعطشة المسام للامتلاء وخامات الأسلاك الملتفة في رغبة الاحتواء.. وهذه الأجسام النحتية المباشرة نراها وهي الوجه الثاني للرؤية الهرمية وكأنه أجري عليها طقوساً وجدانية لعملية تحنيط، عملية تركت أجزاء منها بفعل اندفاع زمن لحظة التشكيل العفوي السريع مهترئة بنفس سرعة رغبة هذه المومياوات الواقفة علي قوائمها الرفيعة مجسدة وما تهفوا إليه للقفز إلي داخل مسطح اللوحة، حيث أهرامات مرسمة تغري برغبة السكن والبقاء الأبدي. والوجه الثالث لرؤية الفنان للانطلاق أكثر بمفهومه إلي أعلي نقطة مفاهيمية أراه بتشكيله الخطي بخامات الأسلاك المتعددة التخانات لإحاطة الفراغي واحتوائه كأنه يرسم اسكتشاً في الفراغ، لكني رأيته أكثر من مجرد رسم اسكتشي بالأسلاك، إنه يحتوي طاقة داخلية كأن أسلاكه هذه قطبان تستقطب طاقة تخزنها داخل تجويف فضائي محدود مفتوح علي الخارج في نفس لحظة انفتاحه علي الداخل وقد رأيت هذه التشكيلات السلكية الفراغية كمزيد من محاولة الغوص بصريا إلي أجساد مومياواته المحنطة بشرائح الخيش، إنه هنا يحاول أن يعبر الزمن ليدرك تاريخ هذه الأجساد المهترئة، ربما أراد أن تكتمل احاطة بتاريخ شخوصه علي المسطح ومجسماته المادية وتشكيلاته في الفضاء، وقد بدا لي هذا من فكرة علمية أو ربما طبية حين إلقاء اشعة «X» علي هيكل ما فندرك ماضيه لأنها اشعة توسع قوة معرفتنا للماضي. فحين عرضت مومياوات مصرية قديمة لتحليل اشعة «X» اكتسبنا معرفة جديدة عن حياة القدماء وما اخفاه الزمن والتحنيط، فالأشعة ببساطة تكشف ما أصاب الجسد قبلا من كسور والتواءات في هيكلها العظمي والجزعي والمفاصل وعظام الجمجمة والأسنان. وفي حالة هذا العرض كشف الفنان مليكة عن أقصي ما يمكن حول الجسد الكتلة وقد زاده تجريدا ومابه من معاناة يتضمنها صامتا صامدا ليدور في مدار فضائي يدفعه للقفز إلي اللوحة، إلي حيث شخوص لوحاته واقفة في لا زمنية وعليها اكفانها تلتف حولها فيما يشبه تعويزة كونية تقترب في كونيتها بتلاقي الأوجه الثلاثة للهرمي فوق نقطة أعلاه تكثف الحس الجنائزي شديد الحضور في معرضه ثلاثي الأوجه الذي ارتكن بوضوح فوق الوجه الرابع الأرضي، حيث أقدام شخوص لوحاته ضخمة راسخة والسيقان كأوتاد في الأرض في مادية شديدة بينما الجسد يموج بخطوط وشرائح لونية تحيطه متحركة في عنف كأنها ادركت فجأة ثقل ماديتها المكبلة لوجودها، بينما قوائم نحته الجبسي والتشكيل الخطي الفضائي نراه رفيعاً وربما هشاً لأنه في كلا النحتي والتشكيلي يهفوان للتحليق لسكن أهرامات اللوحة التي بدت راسخة كالأقدام وكقاعدة الهرم المادية والمفاهيمية لدي الفنان. أعلق علي هذا العرض من زاوية أجدها مهمة، فالفن الذهني أحيانا يصبح ماديا بأكمله، وقد قصد مليكة أن يكون النصب النحتي والتركيبي مهلهلا وطارئا، مصنوعا كي يلائم حيزا معيناً وظرفا معيناً في مكان مادي بشكل ذهني مكثف بأقل وأبسط الوسائل. وأري هذه الفكرة أو مضمونها تتسق وأحد أعمال النحات جون بوروفسكي المسمي «الرجل والمطرقة» فقد نقل قوة التأثير من الشيء إلي الفكرة، وهذا ما حققه مليكة بثلاثيته المتمثلة في التصوير والنحت المباشر والتشكيل الفضائي إلي فكرة الهرمية. لي ملحوظة أخيرة تذكرتها أثناء كتابتي وهي رؤية فلسفية تقول: «إن أكثر ما يوجد عمقا في الإنسان هو جلده».. ولنجد مليكة نزع الجلد عن تركيباته السلكية، وأطاح بجلد شخوص لوحاته، ومزق وسلخ جلود تركيباته الجبسية، وبإحساسي الشديد بجنائزية معرضه أراه يطيح بجلودنا، بذلك الغلاف الآمن لأجسادنا الذي يضمن لنا البقاء، ليجعل من زاوية كأن البقاء أكثر ما يكون بالانسلاخ عن ماديات الجسد. وربما عكس الرؤية الفلسفية التي ذكرتها، يري مليكة أن أكثر ما يوجد عمقا في الإنسان هو روحه.