سوف تظل رحلة الإسراء والمعراج مثاراً للحديث بين أهل العلم والفكر ودعوة لكل ذي عقل رشيد كي يتأمل ويتعلم أن النصر مع الصبر. وأن الجزاء الأوفي لكل من يؤتي العمل بإتقان لكنه من جانب رب العالمين أكثر عطاء وتقديراً ويتميز بمذاقه الخاص. وهؤلاء الصابرون والمحسنون ينالون التكريم من رب العالمين فهو أكرم الأكرمين وفي مقدمة هؤلاء المكرمين سيد الخلق سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم فهو الذي تحمل الكثير من العنت والإيذاء ما تنوء الجبال بحملها وقد كان تكريم هذا الرسول الأمي متميزاً اختص الله سبحانه محمداً بن عبدالله به وسوف يظل هذا التكريم نبراساً يهتدي به أولو العلم والفكر وليتصرف كل ذي عقل علي مدي تقدير الله وعنايته بهذا الرسول وحفاوته به. سبحان ربي إنه علي كل شيء قدير. هذا التكريم يفوق الوصف وتتضاءل دونه الكلمات ويحمل الكثير من المعاني وآيات وألوان متعددة من التكريم والتقدير للرسول الكريم ولعل أفضل تعبير عن ذلك قوله تعالي: "والنجم إذا هوي. ما ضل صاحبكم وما غوي. وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي. علمه شديد القوي. ذو مرة فاستوي. وهو بالأفق الأعلي" إلي آخر تلك الآيات الكريمات.. لقد كان في قمة التكريم والتقدير قول الله تعالي: "ما زاغ البصر وما طغي" إنه تتويج من الحق سبحانه لرسوله الكريم صلي الله عليه وسلم حيث التزم أقصي معاني الأدب والالتزام ففي هذا المقام الكريم لم يتجاوز بصره أي حدود مادية أو معنوية ولم يتخط أي حدود ولم يطغ حتي بالفكر إنها منتهي العظمة والأدب.. لقد أدبه ربه فأحسن تأديبه وجاءت النتائج علي أعلي لأي بشر. وهذا التكريم من الخالق جل وعلا تفرد به رسول الله صلي الله عليه وسلم فرب العالمين يعلم كل دقائق البشر. "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير". هذه الكلمات قصيرة العدد كثيرة المعاني تقطر عطراً وتعبيراً عما يجيش في صدر النبي مادياً ومعنوياً.. إنها التزام فريد من نوعه وهذه الآية "ما زاغ البصر وما طغي" تؤكد أن المعاني التي تحملها هذه الكلمات غزيرة العطاء وتسبر أغوار وجدان النبي وتكشف عن أدق أسرار ذلك العقل والصدر المبارك ولا غرو فهذا النبي شق الله صدره وطهرته الملائكة من كل نوازع الشر والبغضاء "ولسوف يعطيك ربك فترضي" وتلك أجل مكانة وأفضل ما يتمتع به بشر. وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم سعيداً بهذه الرحلة التي اختصه الله بها أرضيه وعلوية وعند عودته إلي أم القري أخذ يخبر الناس بهذه الرحلة المباركة وتجاهل نصيحة أم هانئ بعدم الافصاح عن التفاصيل خوفاً من تكذيب أهل مكة والحرص علي صحابة الرسول من إيذاء هؤلاء الذين يقفون ضد الرسول ودعوة الحق سبحانه. ومن الملفت للنظر أن الرسول حينما أخذ يستعرض الرحلة منذ البداية ويقدم للناس بعض الأدلة التي تؤكد صدق حديثه ومنها ذلك الجمل الشارد من القبيلة التي كانت ترعاه إلي غير ذلك لكن هؤلاء أصروا علي عنادهم وكذبوه بل والأكثر أن البعض قد ارتد عن الإسلام وزاد اللغط وكثر الحديث بين هؤلاء وكان السؤال الأشد إلحاحاً يتضمن "ان العرب يقطعون الرحلة من مكة إلي المسجد الأقصي بالشام شهراً في البداية وشهراً في العودة فكيف يقطعها محمد في ليلة واحدة"؟ وسط هذا الزحام والتزاحم في كثرة الحديث عن رحلة الإسراء والمعراج التقي هؤلاء المكذبون بأبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي بداية الحديث معه قالوا: يا أبا بكر إن صاحبك يزعم أنه ذهب هذه الليلة إلي المسجد الأقصي فهل تصدق ذلك؟ فكانت إجابته شاملة وكاملة في التعبير عن مدي حبه وتصديقه لسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم حيث قال: "إن كان قال ذلك فقد صدق "ثم أردف قائلاً" وكيف لا أصدقه وأنا أصدقه حينما يخبرني بنبأ من السماء"؟ إنها بحق تؤكد مدي إيمان أبي بكر رضي الله عنه بدعوة الحق والنور التي جاء بها صديقه ورفيق دربه محمد بن عبدالله صلي الله عليه وسلم. وبعد أن انتهي أبوبكر من حديثه مع هؤلاء المكذبين توجه إلي الرسول وأخبره بما قاله هؤلاء فأنبأه بصدق الخبر فقال له أبوبكر لكي يطمئن قلبه علي طريقة أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم الخليل صلوات ربي وتسليماته عليه وعلي آله الكرام: أرجوك يا رسول الله أن تصف لي المسجد الأقصي وفي تلك اللحظات حمل جبريل أمين وحي السماء الأقصي علي كفه وقد أخذ الرسول ينظر إليه ويجيب عن أي سؤال يطرحه أبوبكر. وعقب إجابة الرسول عن كل سؤال أبي بكر كان الصديق يقول صدقت وهذا المشهد وذلك الحوار كان علي رءوس الأشهاد. وتقول كتب السيرة والتراجم إن أبا بكر أطلق عليه لقب الصديق عقب هذا اللقاء الممتع والمثير والملقم حجراً لهؤلاء المكذبين الضالين. ولا يفوتنا أن نشير إلي أن هذه الرحلة كانت بالجسد والروح والأدلة قاطعة بذلك سواء بما جاء في أول سورة الإسراء: "سبحان الذي أسري "بعبده" وكلمة بعبده تؤكد ذلك بالاضافة إلي تلك المشاهد التي ذكرها الرسول في لقائه مع أهل مكة ليتنا نستلهم هذه المعاني في حياتنا اليومية لنخظي بهذا التكريم والتقدير من رب العاملين. وليتنا ندرك أن عاقبة الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله الجزاء الأوفي والتكريم من رب العباد.. وعلي الله قصد السبيل!!