حينما نسمع خطب جمال عبدالناصر الآن لا يحدث فينا بالقطع نفس الأثر الذي كان يحدث عندما كنا نسمع تلك الخطب في الخمسينيات والستينيات.. هذه حقيقة وبديهية لا جدال فيها.. فقد تغير الزمن.. وتبدلت القناعات والثوابت.. وتغيرنا نحن أيضا. صرنا بحكم الخبرة والتجربة.. وبحكم النضج السياسي والاجتماعي.. أقل حماسة وعاطفية وأكثر اقترابا من الموضوعية والاتزان وتحكيم العقل.. لم تعد تسحرنا الشعارات الفضفاضة والعبارات الرنانة.. وصارت لنا دراية أكثر بالتوازنات الدولية.. وصرنا ننفر من الصوت الواحد والزعيم الأوحد. ولا أبالغ إذا قلت ان مفهومنا للمفردات الطنانة مثل الحرية والديمقراطية والوطنية والاستقلال والإرادة قد تباعد كثيرا عما كان يقصده عبدالناصر في زمانه.. وكنا ننساق وراءه ونصفق له بحماس شديد واقتناع تام لا يهتز. الدنيا تغيرت كثيرا من حولنا.. ونحن أيضا تغيرنا.. وأدوات العصر ومفرداته ومفاهيمه تغيرت.. بصريح العبارة هذا ليس عصر عبدالناصر ولا عصر السادات ولا عصر مبارك.. هذا عصر جديد.. له مفاهيمه ومشاكله وأدواته المختلفة. وله أيضا حلوله التي يجب أن تكون مختلفة. ومع هذه الحقيقة البديهية فإن حضور عبدالناصر في المشهد السياسي المصري حاليا لا يمكن انكاره.. كأننا نستدعيه بشحمه ولحمه.. بالكاريزما التي كانت في عينيه وبحركات يديه وهزات رأسه.. كثير منا يشتاق إلي عبدالناصر وهذا حقه.. كثير منا يشتاق إلي زمن عبدالناصر وينتظر عبدالناصر مع أن الزمن لا يعود.. والتجارب الإنسانية خاصة بأصحابها لا تتكرر.. ولا يمكن أن تتكرر وتستنسخ طبق الأصل. وعبدالناصر كان إنسانا وتجربته مليئة بالصواب والخطأ.. هيكل نفسه كتب عنه عقب وفاته مباشرة مقالا بعنوان "عبدالناصر ليس أسطورة".. لذلك فإن علي الذين يجتهدون في استدعاء عبدالناصر أو صناعة عبدالناصر جديد أن يفكروا ويتدبروا جيدا فيما يفعلون وفيما يروجون له. عليهم أن يسألوا أنفسهم: أي عبدالناصر ينتظرون لهذا الوطن؟!.. هل عبدالناصر التأميم والمصادرة والحزب الواحد والصوت الواحد والقمع والقهر وزوار الفجر وتكميم الأفواه ومراكز القوي أم عبدالناصر السد العالي ومصانع الحديد والصلب والاستثمار الوطني وبناء القاعدة الصناعية والاعتماد علي النفس وتطوير القدرات الوطنية والاهتمام بالتعليم والصحة والإصلاح الزراعي وتذويب الفوارق بين الطبقات؟! هل ننتظر عبدالناصر الشجاع الذي دعم حركات التحرر في أفريقيا ووقف مع الشعوب الحرة ضد مؤامرات الاستعمار أم عبدالناصر الذي قطع علاقات مصر مع شقيقاتها العربيات بسبب الحملات الإعلامية والشتائم التي كانت تنطلق علي مدار الساعة من وسائل إعلامنا لإرضاء الزعيم؟! لا بأس أن يكون عبدالناصر ملهما لملايين من المحبين والمعجبين لكن تجربته في الحكم ستظل خاصة به وبزمانه.. بإيجابياتها وسلبياتها.. ويبقي من حقنا أن نطور الإيجابيات ونرفض السلبيات.. بل من واجبنا أن ننشر الوعي بين الناس بأن ما كنا جميعا نصفق له في الماضي كان بعضه خاطئاً وعلينا أن نتخلص منه ولا عيب أن نعتذر عنه. ثم.. لا ننسي أن السادات في تجربته الخاصة فعل شيئا من هذا.. وكانت العامة تقول وقتها إنه يسير علي خط عبدالناصر بأستيكة.. لكنها في الواقع طبيعة الحياة.. وطبيعة الشعوب الحية التي تصحح أخطاءها باستمرار. ليس هذا بالطبع معناه ان السادات بلا أخطاء.. مطلقا .. بل ربما كان لشخص مثلي أن يري في أخطاء السادات ما هو أفدح وأخطر من أخطاء عبدالناصر.. لكننا دائما في حاجة إلي ظروف طبيعية وموضوعية لتقييم التجارب بعيدا عن الميل العاطفي سواء أكنا مع أو ضد. والرئيس القادم لمصر يجب ألا يكون عبدالناصر ولا السادات ولا أي شخص آخر.. عليه أن يكون نفسه وكفي.. وأن يقدم لنا تجربته الخاصة التي يجب أن تلائم العصر ومتطلباته وتبحث عن حلول حقيقية للمشكلات والازمات التي يعيشها الوطن والمواطن. علي الرئيس القادم ألا ينبهر بنظريات المنظرين أو ينساق وراء صناع الوهم والأساطير الذين يسحرونه بحلو الكلام.. ثم حين تنحسر عنه الأضواء وتذهب عنه هالات الشهرة والنجومية.. سوف يبقي وحده.. وحده لا سند له إلا ما قدم للشعب من أفعال وانجازات حقيقية.. أما هؤلاء المنظرون صناع الوهم فسوف ينقلبون عليه.. ويذهبون إلي صناعة بطل جديد. إشارات: * وضع المهندس جمال السادات تقليداً سياسياً جديدا حينما حمل توكيلات أسرته وسلمها إلي السفير محمود كارم. البعض يسمي هذا التقليد "دهاء سياسي" لكن في الحقيقة له اسم آخر.. خصوصا عندما يتقاطع التقليد السياسي مع طموح البيزنس. * صحيح أن المهندس جمال السادات كان سباقا.. لكننا ننتظر ما ستجود به قريحة المهندس عبدالحكيم عبدالناصر والاستاذ جمال مبارك. * أخيراً.. وافقت الحكومة علي تشغيل محطات الكهرباء بالفحم.. والغريب أننا سنستورد الفحم أيضا كما نستورد المازوت والسولار. * الصحف جعلت من المشتاقين للرئاسة أمام اللجنة العليا للانتخابات مادة يومية للفكاهة.. هل هذا يليق؟! * رغم الكلام الذي يحيط بنا.. سوف تنتصر مصر علي الارهاب المجرم بكل أشكاله وألوانه.. وستخرج من محنتها صبية عفية قادرة علي بناء الحضارة وصنع التاريخ.. ومن يراهن علي انهيار مصر واهم واهم. * ".... لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسي نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض ان الله لا يحب المفسدين" القصص 26. 27 صدق الله العظيم