لا أدري كيف ينظر القادة العرب إلي كارثة انفصال الجنوب السوداني التي أصبحت حقيقة حتي من قبل إجراء الاستفتاء المقرر في يناير القادم؟ والقادة العرب الذين أقصدهم هنا ليسوا الملوك والرؤساء فقط وإنما قادة الرأي في بلادنا بصفة عامة.. الوزراء ورؤساء الأحزاب ورجال الدين وأساتذة الجامعات ورجال القانون والشعراء والأدباء والكتاب والصحفيون والإعلاميون والفنانون ورجال المال والأعمال.. والقيادات النسائية والنقابية والعمالية.. الخ.. كيف ينظر هؤلاء جميعا إلي كارثة انفصال جنوب السودان وهي تمر الآن بفصولها الأخيرة؟! أظن وبعض الظن ليس إثما. أن قطاعاً عريضاً من هؤلاء يري نفسه خارج إطار القضية برمتها.. فلم ينشغل بها.. ويكفيه ما فيه.. متصوراً أن الكارثة تقع علي السودان وحده.. وأن شظاها لن يصل إليه.. وهذا في الواقع تصور ضيق.. لأن ما يحدث في الجنوب السوداني اليوم مرشح في السر والعلن لأن يكون نموذجاً يجري تطبيقه بعد ذلك في أماكن أخري من عالمنا العربي بنفس السيناريو التدريجي الذي تم به.. والرهان هنا علي الزمن وعلي الأمة التي لاتقرأ.. وإذا قرأت لاتفهم.. وإذا فهمت لاتأخذ العبرة.. وإذا أخذت العبرة سرعان ما تنسي. ماحدث.. وما يحدث اليوم في الجنوب السوداني هو في حقيقته اقتطاع لجزء من جسد الأمة العربية والأرض العربية..من لحمها الحي.. تقضمه أنياب حادة متربصة.. تحاصر هذه الأمة من كل جانب.. وهو مؤشر خطير علي الهزيمة الحضارية التي يعاني منها العرب منذ سنوات.. وبالطبع هناك مؤشرات أخري عديدة علي هذه الهزيمة الحضارية أبرزها تفكيك العراق وتمزيق لبنان واليمن وضياع معالم القضية الفلسطينية وحالة الانقسام والتشتت التي نعيشها.. وما خفي كان أعظم. كنا في نكسة 1967 نقول إننا خسرنا معركة ولم نخسر الحرب.. وفي اكتوبر 1973 كنا نقول إننا سجلنا نصراً حضارياً أعاد للعرب جميعا اعتبارهم أمام العالم.. وهذه حقيقة تاريخية لاتقبل التشكيك.. لكن الوقع العربي الآن يعاني من الاضمحلال العام والفرقة وهو ما شجع الطامعين في استقطاع أجزاء من أطرافه أملاً في الوصول إلي العمق الاستراتيجي. وكلما فقدت الأمة جزءاً من لحمها الحي كان هذا موشراً جديداً علي الهزيمة الحضارية التي تعيشها.. فالأمم القوية المنتصرة لاتفقد من جسدها وإنما تضيف إليه.. ولنا في ألمانيا عبرة وعظة.. فقد هزمت حضارياً أثناء الحرب العالمية الثانية.. لكنها استعادت قوتها.. واستردت عافيتها.. وانتصرت حضارياً.. والتأم شرقها مع غربها لتعود ألمانيا القوية التاريخية التي يعرفها العالم. ومنذ أن اندلعت الحرب بين الحكومة المركزية في السودان وحركة التمرد في الجنوب التي ادعت مرة أنها تحارب من أجل الديمقراطية ومرة أنها تحارب ضد قوانين الشريعة الإسلامية ومرة أخري من أجل تقاسم السلطة والثروة مع الشمال كأن هناك يقينا ثابتا بأن حركة التمرد هذه تحصل علي دعم عسكري ومالي ومعنوي من أمريكا وإسرائيل وبعض الأنظمة المجاورة للسودان المتحالفة مع الدولتين.. وبعد أن سجلت حركة التمرد عدة انتصارات كان سببها الأساسي حالة التشرذم السياسي في الشمال واختلاف الأحزاب والانقلابات المتكررة كانت الظروف مهيأة لظهور الدعم الأمريكي الي العلن فتم تعيين مبعوث خصوصي من واشنطن لإدارة الصراع بين الخرطوم وحركة التمرد الصاعدة. وخطوة خطوة.. تم تتويج جهود الوساطة الأمريكية بتوقيع الطرفين علي اتفاق في "نيفاشا" ينص علي إجراء استفتاء لسكان الجنوب السوداني كي يختاروا بين الوحدة أو الانفصال.. وبقدر ما اعتبر هذا الاتفاق انتصارا كبيرا لقادة التمرد في الجنوب وحلفائهم اعتبر اعترافا من الشمال "الحكومة المركزية" بالهزيمة .. فليست هناك دولة قوية متماسكة تقبل إجراء استفتاء لقطاع من سكانها لكي ينفصلوا عنها بجزء من أرضها أو يستمروا فيها. وإذا كانت مسئولية هذه الهزيمة تقع بالأساس علي عاتق الحكومة المركزية في الشمال ورؤساء الأحزاب الشمالية الذين لعبوا مع التمرد الجنوبي لعبة انتهازية بغيضة نكاية في الرئيس وحكومته.. سواء أكان هذا الرئيس جعفر نميري أو صادق المهدي "رئيس الوزراء المنتخب" أو عمر البشير.. وخلطوا في هذا الأمر بين ماهو سياسي حزبي وماهو وطني قومي استراتيجي.. وضحوا بالثانية من أجل الأولي. ثم هناك مسئولية اخري تقع علي عاتق الدول العربية الذين تركوا السودان في محنته ولم يدعموه بالقدر الكافي.. بل ان البعض من هذه الدول لعب ايضا علي الحبال السياسية نكاية وبغضا لنظام نميري أو المهدي أو البشير.. وقدموا بذلك هم ايضا المصلحة السياسية العابرة علي المصلحة الوطنية والقومية والاستراتيجية. وهذه .. للأسف .. محنة عربية مزمنة .. فكثيرا ماتتوه البوصلة العربية عندما تتصارع الأنظمة ويحل التشرذم.. ويقف بعضهم في مواجهة البعض الآخر.. رغم أنهم جميعا ضحايا.. إن آجلا أو عاجلا. ويبدو أن العرب أدركوا خطورة الموقف متأخرين كالعادة.. وعندما وصل وفد عربي إلي جوبا عاصمة إقليمالجنوب ليعرض المساعدات العربية والاستثمارات التي يمكن أن تقدم عن طريق الجامعة العربية لكي تجعل الوحدة خيارا جاذبا.. وتدفع أهل الجنوب الي التصويت لصالح السودان الواحد أو علي الأقل ضمان علاقات طيبة بين العرب والدولة الانفصالية الوليدة كان سيلفا كير قائد التمرد الجنوبي الذي تم تعيينه وفقا لاتفاق نيفاشا نائبا أول للرئيس السوداني يعلن انه لايستبعد اقامة علاقات جيدة مع اسرائيل وفتح سفارة لها في جوبا عاصمة اقليمالجنوب عقب الانفصال.. مشيرا إلي أن اسرائيل عدوة للفلسطينيين وليست عدوة للجنوب.. وانه سيرسم خريطة جديدة للسياسة الخارجية في حالة الاستقلال. وقد اعتبر هذا التصريح المؤلم في توقيته لطمة علي وجه الوفد العربي الذي ذهب الي هناك محملا بالهدايا ففوجئ بأن هديته ردت اليه وان أحدا لايرغب في استقباله.. خاصة أن الجنوبيين كانوا منشغلين عن الوفد العربي باجتماع مهم للاتفاق علي إجراءات الانفصال عمليا علي الأرض من أول لحظة للاستفتاء.. وكان حاضرا في هذا الاجتماع القائم بالاعمال الأمريكي في جوبا يرافقه مبعوث خاص من الحكومة الاسرائيلية. إذن .. لقد تأخر العرب.. وعليهم الآن ان يقفوا بكل قوتهم مع الحكومة المركزية في الشمال.. ويتناسوا مؤقتا خلافاتهم السياسية ويركزوا في الهدف الاستراتيجي.. فاللعب اصبح علي المكشوف.. هناك في الجنوب أمريكا واسرائيل.. وهناك في الشمال حكومة منهكة بالصراع مع دارفور.. ورئيس تحت حصار الاتهام بارتكاب جرائم حرب.. وسياسيون مختلفون ومتنازعون وانتهازيون. تلك هي الخريطة المرسومة لوطن يضيع.. وجزء من لحم الأمة يقتطع في لحظة تاريخية بائسة.. فهل نتعامل مع الكارثة بما تستحقه من أهمية حتي لايصبح الانفصال نموذجا قابلا للتطبيق في السودان وغير السودان. بشئ يسير من الرشد والاخلاص نستطيع أن نجعله نموذجا صعب التطبيق.. وبشئ من التوحد والوعي تستطيع أن نجعله نموذجا مستحيلاً.. ونضبط "عنجهية" سيلفاكير وحلفاءه الطامعين المتربصين.. فهل نفعل؟! إشارات * أمين أباظة وزير الزراعة بحث مع الرئيس السوداني عمر البشير تنفيذ مشروعات زراعية مصرية عملاقة بالسودان. خطوة جيدة جدا .. لكنها تأخرت كثيرا. * الحد الأدني للأجور فرصة جيدة للمزايدات الانتخابية. * سوف تكسب الحكومة كثيرا جدا لو نفذت حكم الغاء الحرس الجامعي بحسن نية.