أفلام خرجت من الشتات وعبرت عن حالات شعب يعيش معظم ابنائه خارج الوطن. أو داخل عربة مفروضة داخله.. أفلام حلوها مر. ومرارتها مغموسة بالحنين إلي وطن أصبح مجرد "فكرة" أرضه التهمها الصهاينة ضمن مشروع استعماري كبير صهيوني أمريكي وبمباركة غربية وأمام متفرجين من جميع أنحاء العالم بما فيهم أبناء الدول العربية! الأفلام الفلسطينية وثائق للتاريخ. وشهادات ناطقة تجرح عيون ومشاعر المتفرجين في كل مكان تعرض فيه. ومثل القضية الفلسطينية تتأرجح هذه المشاريع السينمائية صعوداً وهبوطاً في مؤتمرات العالم ومهرجاناته. وتفوز بالجوائز مالية أو ورقية تستقر في نهاية الأمر فوق الأرفف في منازل صناعها المهاجرين من بلد إلي بلد. آخر ما شاهدناه هنا من أعمال لمخرجين فلسطينيين فيلم "عالم ليس لنا" "Aworld not ours) للمخرج مهدي فليفل الذي ولد في دبي وعاش سنوات تكوينه الأولي في مخيم عين الحلوة بجنوبلبنان. ثم ذهب مع الأسرة إلي الدنمارك وأخيراً استقر في لندن بعد أن درس في المعهد الوطني للسينما والتليفزيون. وفي عام 2010 أسس شركة انتاج خاصة أسماها "النكبة ورك شوب" Nakba work shop. الفيلم انتاج لبناني. دانماركي. بريطاني وهو أقرب إلي السيرة الذاتية للمخرج الذي قام بالكتابة والتصوير بينما قام بالمونتاج مشيل اوجلند. وتأليف الموسيقي خصيصاً للفيلم جون اوبيستا. الفيلم حاصل علي عدد كبير من الجوائز منها أفضل فيلم تسجيلي في مهرجان دبي 2012 وجائزة الاتحاد الدولي للنقاد في نفس المهرجان بالإضافة إلي جوائز في تورنتو بكندا ومهرجان أدنبرة. وعرض في مهرجان لندن.. ومؤخراً شاهدناه في القاهرة من خلال بانوراما الفيلم الأوروبي الذي انتهي 7 ديسمبر الجاري. الحلاوة المُرة حكاية الفيلم تأتينا عبر صوت الراوي وهو نفسه المخرج الذي اختار اللغة الانجليزية ليس من باب التفرنج وإنما لأنها حكاية يجب أن يفهمها جمهور بلاد شاركت في صنعه بالتمويل. ولأنها قضية عامة رغم أن العمل نفسه ذاتياً قحاً. شيء آخر أن مادة الفيلم ومكانه وشخوصه يتحدثون العربية ويكشفون عن مكنون مشاعرهم أمام الكاميرا. والكاميرا نفسها كاشفة وبليغة في كشفها عن تفاصيل المكان وروحه وظروفه المعيشية وأحواله الاقتصادية من دون كلام وبلا حوار. فالصور المرئية وحدها تنطق بالظاهر وتبوح بالخفي من الأمور. علماً بأن الظاهر والباطن يعلمه جميع من يعرف ماذا تعني الحياة داخل مخيم للاجئين. فما بالك حين يكون اسم المخيم "عين الحلوة"؟؟ وهو اسم بالقطع ليس علي مسمي. فالعين تعني نبع المياه أي أننا داخل "نبع المياه الحلوة"!.. المخيم مساحته كيلو متر واحد ويعيش فيه مئات الآلاف من الفلسطينيين في جنوبلبنان. ولبنان لا تمنح للشباب الذين نراهم أمامنا في المخيم تصاريح عمل. وممنوع عليهم الاشتغال في 25 وظيفة منها الطب والهندسة والقانون "!!".. يقول الراوي وهو نفسه المخرج: "يندهش الأصدقاء أنني أمضي اجازتي السنوية في هذا المكان.. والمكان بالنسبة لي أجمل من ديزني لاند. والفيلم يبدأ بعودته في اجازة إلي مخيم عين الحلوة حيث مازال بعض افراد العائلة يعيشون. وحيث يقيم صديقه "أبو اياد".. وبينما يستطيع "فليفل" الذي صار يمتلك جواز سفر بجنسية ليست فلسطينية أن يدخل ويخرج بحرية. يعجز "أبو اياد" عن الخروج انه يتوق إلي الهجرة. ويفكر أحياناً أنه يفجر نفسه في عملية استشهادية. يقول أبو اياد في معرض الأحداث!! الذين يفجرون أنفسهم يشعرون بما أشعر به. ولكنهم يتخذون من فلسطين حجة للخلاص من حياتهم. والمخرج الراوي يقدم لمشاهديه أبناء المخيم الذي شهد جزءاً من حياته. فأبناء المخيم وحدهم هم من يستطيعون دخول المكان ولذلك فإنه يتعرض لصعوبات جمة في كل مرة يزوره. لأن المسئولين يحتارون أمام أوراقه التي تنسبه إلي جنسية أخري. ولكنه ما أن يدلف حتي يستحضر اصدقاؤه وأسرته ويرسم صورة للحياة داخل المخيم لا تخلو من مرح وبهجة. هناك فارق واضح لا يمكن الإمساك به بين من يصنع عملاً معجوناً بالحب والمشاعر المرتاحة والألفة وبين من يصور عالماً يرفضه ويستخدمه كمادة في فيلم يعرضه علي جمهور غريب وبعيد. فبالرغم من جفاف الحياة داخل عين الحلوة. هناك شعور ما بأنه خلف وأمام هذه الأبواب المتواضعة أناس طيبين صبورين يمارسون الحياة رغم ضيق الموارد. يفكرون في العودة إلي الوطن ويحلمون بأشياء لم يعد لها وجود. والمأساة المحزنة إن المكان الذي يحلقون فوقه بخيالهم لم يعد موجود إلا في الذاكرة الجمعية لبعض الكبار.. صغار ولدوا في هذا المكان والشباب أيضاً! مشاعر الاحباط تسكن الأجيال المتعاقبة وبالذات جيل ابواياد الشاب صديق فليفل الذي كان عضواً في الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. انه يحلم بزوال المخيم بل ومحوه من علي الأرض. "عالم ليس لنا" فيلم معبأ بمشاعر الألم وبالحنين وبالتوق العارم للحرية. ومحمل أيضاً بالروح المرحة. بالقدرة علي ممارسة الحياة ومتابعة مباريات كأس العالم التي تتحول إلي مناسبة لطرح القضايا. والابتهاج قيمة الانتصار. الأحداث المعُاشة والحية في الفيلم تتشكل أمام أعين المشاهدين. وتتطور وتأخذ مساراتها ضمن دراما عائلية خفيفة. لكنها تعرج أحياناً إلي هموم وانشغالات عميقة وإلي سؤال وجودي عويص: ما مصير هؤلاء.. بالأحري ما هو مصير الفلسطينيين الذين يعيشون بعيداً عن اراضيهم؟.. ما هو مصير هذا الكيان البائس "عين الحلوة" المخرج الذي يحمل جواز سفر غربي مشغول بدوره رغم أن المشكلة ظاهرياً لا تبدو ملحة لقد صار عمر المخيم ستون عاماً. البيوت فقيرة بائسة. الشوارع مجرد أزقة ضيقة. الكثافة السكانية تزداد تفاقماً أنها ليست بيوت في حقيقة الأمر ورغم ذلك يلعب أمامها صبية جميلة متفتحة تستخدم البنادق وتعرف معني الحروب وقري الصواريخ وهي تدك المنازل. أطفال يعيشون الحرب ويعرفون عملياً تداعياتها. فليفل في تصويره لأجيال من الفلسطينيين يضمهم مخيم عين الحلوة لا يريد أن يصنع مأساة ولا أن يشغلنا بهموم ذاتية ولكنه من حيث لا يريد يعجز عن عدم الولوج إلي جوهر ما يمثله المخيم بسكانه. وجوهر ماتعنيه ركام الذكريات التي سجلها بنفسه في زياراته السنوية علي شرائط فيديو في كل مرة يزور عائلته وصديقه أبو اياد. فالفيلم وسط فيض الذكريات والسباحة بين الحاضر والماضي يطرح اسئلة دون عمد. ويدفعنا إلي التفكير بينما نتأمل واقع لا يقدم اجابات شافية. لقد حقق "فليفل" الحرية لنفسه. وهي حرية مزدوجة. حرية في المكان والحركة وحرية أخري تتبعها مهاراته كمخرج ومصور مبدع قادر علي التعبير من مكنون ذاته. وعلي حمل شكاوي أهله وأبناء وطنه من خلال الفيلم نفسه إلي آخرين. والشكاوي مركبة مثل مادة الفيلم. شكاوي من المسئولين الفلسطينيين أنفسهم. من البلد المضيف "لبنان" الذي يضن بكل شيء علي سكان المخيم. وشكاوي من العالم الخارجي ومنظماته العاجزة عن صنع أي شيء في مواجهة الظلم والجور الذي تتعرض له الشعوب. مازال "فليفل" المبدع مربوطاً بحبل صُري ليس بالمخيم فقط وإنما بما يمثله بالنسبة له.. فهو أفضل من مدينة ملاهي ديزني حسب ما يقول يحقق له الراحة والونس والدفء الأسري والصداقة الحميمة التي قد تكون مفقودة في بلاد المهجر. "عين الحلوة" يمثل مفارقة كبيرة بين الاسم والمضمون. ولولا الحياة لأستعنت بالشتيمة التي نطق بها "أبو اياد" تعبيراً عن حنقه وضيقه بالحياة كشاب يعيش في حاوية بشرية. عاجز عن تحقيق حلم الخروج أو العودة إلي الوطن. الفيلم لا تملك إلا أن تحبه وتتأثر به وتسعي لمشاهدته أكثر من مرة. وليس من قبيل المصادفة هذا الفيض من الجوائز. ومن الاعجاب النقدي. في كل مناسبة يعرض فيها. ومثل هذه الأعمال تمثل دون جدال القوة الناعمة النافذة في الصراع مع الاحتلال الصهيوني المدعوم من الغرب. فالصراع طويل وممتد وليس قاصراً بالمناسبة علي الفلسطينيين فالمشروع الصهيو أمريكي يتجسد كالوحش الكاسر أمامنا ولن يوقفه إلا ارادة أبناء الشعوب العربية وفلسطين بصورة أخص.. المقصود الأبناء غير العملاء. لقد اعتمد المخرج علي ذاكرته الذاتية. علي تسجيلاته الخاصة. علي أرشيفه. وعلي صور تاريخية للصراع. فقد سبق له أن صنع فيلماً عن "عرفات" عام 2008 وحقق العمل نجاحاً كبيراً. الفيلم يجسد ماذا يعني الفيلم التسجيلي كتاريخ. وتسجيل بصري للضمير الجمعي وللذاكرة وأيضاً للصراع المتواصل تكريساً لقيمة الحياة ومعني الفن الهادف الذي يبقي علي جذوة القضية ويحمل في نفس الوقت قدراً كبيراً من المتعة الفنية.